فصل: فرع آخر هل يقبل الجرح والتعديل من دون ذكر السبب أم لا؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ***


المقصد الثاني في السنة

وفيه أبحاث‏:‏

البحث الأول‏:‏ في معنى السنة لغة وشرعا

وأما لغة فهي الطريقة المسلوكة وأصلها من قولهم‏:‏ سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سنا أي طريقا وقال الكسائي‏:‏ معناها الدوام فقولنا سنة معناه الأمر بالأدامة من قولهم سننت الماء إذا واليت في صبه قال الخطابي‏:‏ أصلها الطريقة المحمودة فإذا أطلقت انصرفت إليها وقد يستعمل في غيرها مقيدة كقوله من سن سنة سيئة وقيل هي الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أو سيئة كما في الحديث الصحيح «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»‏.‏

وأما معناها شرعا أي في اصطلاح أهل الشرع فهي قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره وتطلق بالمعنى العام على الواجب وغيره في عرف أهل اللغة والحديث وأما في عرف أهل الفقه فإنما يطلقونها على ما ليس بواجب وتطلق على ما يقابل البدعة كقولهم‏:‏ فلان من أهل السنة قال ابن فارس في فقه اللغة العربية‏:‏ وكره العلماء قول من قال سنة أبي بكر وعمر وإنما يقال سنة الله وسنة رسوله ويجاب عن هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ» ويمكن أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم أراد بالسنة هنا الطريقة وقيل في حدها اصطلاحا هي ما يرجح جانب وجوده على جانب عدمه ترجيحا ليس معه المنع من النقيض وقيل هي ما واظب على فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع ترك ما بلا عذر وقيل هي في العبادات النافلة وفي الأدلة ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير وهذا هو المقصود بالبحث عنه في هذا العلم‏.‏

البحث الثاني ‏[‏في استقلاق السنة بالتشريع‏]‏

اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المظهرة مستقلة بتشريع الأحكام وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «ألا وأني أوتيت القرآن ومثله معه» أي أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن وذلك كتحريم لحوم الحمر الأهلية وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وغير ذلك مما لم يأت عليه الحصر وأما ما يروى من طريق ثوبان في الأمر بعرض الأحاديث على القرآن فقال يحيى بن معين أنه موضع وضعته الزنادقة وقال الشافعي ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير‏.‏

وقال ابن عبد البر في كتاب الله جامع العلم‏:‏ قال عبد الرحمن بن مهدي‏:‏ الزنادقة والخوارج وضعوا حديث ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف فلم أقله وقد عارض حديث العرض قوم فقال‏:‏ وعرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله فخالفه لأنا وجدنا في كتاب الله‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ ووجدنا فيه ‏{‏قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله‏}‏ ووجدنا فيه ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏}‏ قال الأوزاعي‏:‏ الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب قال ابن عبد البر‏:‏ إنها تقضي عليه وتبين المراد منه وقال يحيى بن أبي كثير‏:‏ السنة قاضية على الكتاب والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام‏.‏

البحث الثالث ‏[‏في عصمة الأنبياء‏]‏

ذهب الأكثر من أهل العلم إلى عصمة الأنبياء بعد النبوة من الكبائر وقد حكى القاضي أبو بكر إجماع المسلمين على ذلك وكذا حكاه ابن الحاجب وغيره من متأخري الأصوليين وكذا حكوا الإجماع على عصمتهم بعد النبوة مما يزري بمناصبهم كرذائل الأخلاق والدناءات وسائر ما ينفر عنهم وهي التي يقال لها صغائر الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة‏.‏

وإنما اختلفوا في الدليل على ذلك الشرع والعقل لأنها منفرة عن الاتباع فيستحيل وقوعها منهم عقلا وشرعا ونقله إمام الحرمين في البرهان عن طبقات الخلق قال وإليه مصير جماهير أئمتنا وقال ابن فورك إن ذلك ممتنع من مقتضى المعجزة‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ وإليه ذهب الأستاذ أبو إسحاق ومن تبعه وقال القاضي أبو بكر وجماعة من محققي الشافعية والحنفية إن الدليل على امتناعها السمع فقط وروى عن القاضي أبي بكر أنه قال إنها ممتنعة سمعا والإجماع دل عليه قال ولو رددنا ذلك إلى العقل فليس فيه ما يحيلها واختار هذا إمام الحرمين والغزالي وإلكيا وابن برهان قال الهندي هذا الخلاف فيما إذا لم يسنده إلى المعجزة في التحدي فإن أسنده إليها كان امتناعه عقلا وهكذا وقع الإجماع على عصمتهم بعد النبوة من تعمد الكذب في الأحكام الشرعية لدلالة المعجزة على صدقهم وأما الكذب غلطا فمنعه الجمهور وجوزه القاضي أبو بكر‏.‏

واستدل الجمهور بأن المعجزة تدل على امتناعه واستدل القاضي بأن المعجزة إنما تدل على امتناعه عمدا لا خطأ وقول الجمهور أولى وأما الصغائر التي لا تزري بالمنصب ولا كانت من الدناءات فاختلفوا هل تجوز عليهم وإذا جازت هل وقعت منهم أم لا‏؟‏ فنقل إمام الحرمين وإلكيا عن الأكثرين الجواز عقلا‏.‏

وكذا نقل ذلك عن الأكثرين ابن الحاجب ونقل إمام الحرمين وابن القشيري عن الأكثرين أيضا عدم الوقوع قال إمام الحرمين الذي ذهب إليه المحصلون أنه ليس في الشرع قاطع في ذلك نفيا أو إثباتا والظواهر مشعرة بالوقوع‏.‏

ونقل القاضي عياض تجويز الصغائر ووقوعها عن جماعة من السلف منهم أبو جعفر الطبري جماعة من الفقهاء والمحدثين قالوا ولابد من تنبيههم عليه إما في الحال على رأي جمهور المتكلمين أو قبل وفاتهم على رأي بعضهم ونقل ابن حزم في الملل والنحل عن أبي إسحاق الإسفرائيني وابن فورك أنهم معصومون عن الصغائر والكبائر جميعا وقال إنه الذين ندين الله به واختاره ابن برهان وحكاه النووي في زوائد الروضة عن المحققين قال القاضي حسين وهو الصحيح مذهب أصحابنا يعني الشافعية وما ورد من ذلك فيحمل على ترك الأولى‏.‏

قال القاضي عياض يحمل على ما قبل النبوة أو على أنهم فعلوه بتأويل واختار الرازي العصمة عمدا وجوزها سهوا واختلفوا في معنى العصمة فقيل هو أن لا يمكن المعصوم من الإتيان بالمعصية وقيل هو أن يختص في نفسه أو بدنه بخاصية تقتضي امتناع إقدامه عليها وقيل إنها القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية وقيل إن الله منعهم منها بألطافه بهم فصرف دواعيهم عنها وقيل إنها بتهيئة العبد للموافقة مطلقا وذلك يرجع إلى خلق القدرة على كل طاعة فإن قلت‏:‏ فما تقول فيما ورد في القرآن الكريم منسوبا إلى جماعة من الأنبياء وأولهم أبونا آدم عليه السلام فإن الله يقول ‏{‏وعصى آدم ربه فغوى‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ قد قدمنا وقوع الإجماع على امتناع الكبائر منهم بعد النبوة فلابد من تأويل ذلك بما يخرجه عن ظاهره بوجه من الوجوه وهكذا يحمل ما وقع من إبراهيم عليه السلام من قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم وقوله في سارة أنها أخته على ما يخرجه عن محض الكذب لوقوع الإجماع على امتناعه منهم بعد النبوة وهكذا في قوله سبحانه وتعالى في يونس عليه السلام ‏{‏إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه‏}‏ لابد من تأويله بما يخرجه عن ظاهره وهكذا ما فعله أولاد يعقوب بأخيهم يوسف وهكذا يحمل ما ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يستغفر الله في كل يوم وأنه كان يتوب إليه في كل يوم على أن المراد رجوعه من حالة إلى أرفع منها وأما النسيان فلا يمتنع وقوعه من الأنبياء قيل إجماعا وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني»‏.‏

قال قوم ولا يقرون عليه بل ينبهون قال الآمدي ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني وكثير من الأئمة إلى امتناع النسيان قال الزركشي في البحر‏:‏ وأما الإمام الرازي في بعض كتبه فادعى الإجماع على الامتناع وحكى القاضي عياض الإجماع على امتناع السهو والنسيان في الأقوال البلاغية وخص الخلاف بالأفعال وأن الأكثرين ذهبوا إلى الجواز وتأول المانعون الأحاديث الواردة في سهوه صلى الله عليه وسلم على أنه تعمد ذلك وهذا التأويل باطل بعد قوله‏:‏ «أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني»‏.‏

وقد اشترط جمهور المجوزين للسهو والنسيان اتصال التنبيه بالواقعة وقال إمام الحرمين يجوز التأخير وأما قبل الرسالة فذهب الجمهور إلى أنه لا يمتنع من الأنبياء ذنب كبير ولا صغير وقالت الروافض يمتنع قبل الرسالة منهم كل ذنب‏.‏

وقالت المعتزلة يمتنع الكبائر دون الصغائر واستدل المانعون مطلقا أو مقيدا بالكبائر بأن وقوع الذنب منهم قبل النبوة منفر عنهم عند أن يرسلهم الله فيخل بالحكمة من بعثهم وذلك قبيح عقلا ويجاب عنه بأنا لا نسلم ذلك والكلام على هذه المسألة مبسوط في كتب الكلام‏.‏

البحث الرابع‏:‏ في أفعاله صلى الله عليه وسلم

اعلم أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى سبعة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية كتصرف الأعضاء وحركات الجسد فهذا القسم لا يتعلق به أمر باتباع ولا نهي عن مخالفة وليس فيه أسوة ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة كالقيام والقعود ونحوهما فليس فيه تأس ولا به اقتداء ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور ونقل القاضي أبو بكر الباقلاني عن قوم أنه مندوب وكذا حكاه الغزالي في المنخول وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يتتبع مثل هذا ويقتدي به كما هو معروف عنه منقول في كتب السنة المطهرة‏.‏

القسم الثالث‏:‏ ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف ووجه مخصوص كالأجل والشرب واللبس والنوم فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة وفوق ما ظهر فيه أمر الجبلة على فرض أنه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل وأما إذا وقع منه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى بعض الهيئات كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيئات الأكل والشرب واللبس والنوم فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي وفي هذا القسم قولان للشافعي ومن معه يرجع فيه إلى الأصل وهو عدم التشريع أو إلى الظاهر وهو التشريع والراجح الثاني وقد حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن أكثر المحدثين فيكون مندوبا‏.‏

القسم الرابع‏:‏ ما علم اختصاصه به صلى الله عليه وسلم كالوصال والزيادة على أربع فهو خاص به لا يشاركه فيه غيره وتوقف إمام الحرمين في أنه هل يمنع التأسي به أم لا‏؟‏

وقال ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة كانوا يقتدون به صلى الله عليه وسلم في هذا النوع ولم يتحقق عندنا ما يقتضي ذلك فهذا محل التوقف وفرق الشيخ أبو شامة المقدسي في كتابه في الأفعال بين المباح والواجب فقال ليس لأحد الاقتداء به فيما هو مباح له كالزيادة على الأربع ويستحب الاقتداء به في الواجب عليه كالضحى والوتر وكذا فيما هو محرم عليه كأكل ذي الرائحة الكريهة وطلاق من تكره صحبته والحق أنه لا يقتدي به فيما صرح لنا بأنه خاص به كائنا ما كان إلا بشرع يخصنا فإذا قال مثلا هذا واجب علي مندوب لكم كان فعلنا لذلك الفعل لكونه أرشدنا إلى كونه مندوبا لنا لا لكونه واجبا عليه وإن قال هذا مباح لي أو حلال ولم يزد على ذلك لم يكن لنا أن نقول هو مباح لنا أو حلال لنا وذلك كالوصال فليس لنا أن نواصل هذا على فرض عدم ورود ما يدل على كراهة الوصال لنا أما لو ورد ما يدل على ذلك كما يثبت أنه صلى الله عليه وسلم واصل أياما تنكيلا لمن لم ينته عن الوصال فهذا لا يجوز لنا فعله بهذا الدليل الذي ورد عنه ولا يعتبر باقتداء من اقتدى به فيه كابن الزبير وأما لو قال هذا حرام علي وحدي ولم يقل حلال لكم فلا بأس بالتنزه عن فعل ذلك الشيء أما لو قال حرام علي حلال لكم فلا يشرع التنزه عن فعل ذلك الشيء فليس في ترك الحلال وره‏.‏

القسم الخامس‏:‏ ما أبهمه صلى الله عليه وسلم لانتظار الوحي كعدم تعيين نوع الحج مثلا فقيل يقتدي به في ذلك وقيل لا قال إمام الحرمين في النهاية وهذا عندي هفوة ظاهرة فإن إبهام رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على انتظار الوحي قطعا فلا مساغ للاقتداء به من هذه الجهة‏.‏

القسم السادس‏:‏ ما يفعله مع غيره عقوبة له فاختلفوا هل يقتدي به فيه أم لا فقيل يجوز وقيل لا يجوز وقيل هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب وهذا هو الحق فإن وضح لنا السبب الذي فعله لأجله كان لنا أن نفعل مثل فعله عند وجود مثل ذلك السبب وإن لم يظهر السبب لم يجز وأما إذا فعله بين شخصين متداعيين فهو جار مجرى القضاء فتعين علينا القضاء بما قضى به‏.‏

القسم السابع‏:‏ الفعل المجرد عما سبق فإن ورد بيانا كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم» وكالقطع من الكوع بيانا لآية السرقة فلا خلاف أنه دليل في حقنا وواجب علينا وإن ورد بيان لمجمل كان حكمه حكم ذلك المجمل من وجوب وندب كأفعال الحج وأفعال العمرة وصلاة الفرض وصلاة الكسوف وإن لم يكن كذلك بل ورد ابتداء فإن علمت صفته في حقه من وجوب أو ندب أو إباحة فاختلفوا في ذلك على أقوال‏:‏ الأول أن أمته مثله في ذلك الفعل إلا أن يدل عليه اختصاصه وهذا هو الحق والثاني أن أمته مثله في العبادات دون غيرها والثالث الوقف والرابع لا يكون شرعا لنا إلا بدليل وإن لم تعلم صفته في حقه وظهر فيه قصد القربة فاختلفوا فيه على أقوال‏.‏

الأول‏:‏ أنه للوجوب وبه قال جماعة من المعتزلة وابن شريح وأبو سعيد الأصطخري وابن خيران وابن أبي هريرة واستدلوا على ذلك بالقرآن والإجماع والمعقول‏:‏ أما القرآن فبقوله‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم تحبون الله فاتبعوني‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فليحذر الذين يخالفون عن أمره‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏}‏ وأما الإجماع فلكون الصحابة كانوا يقتدون بأفعاله وكانوا يرجعون إلى رواية من يروى لهم شيئا منها في مسائل كثيرة منهم أنهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة‏:‏ فعلته أنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى ذلك وأجمعوا عليه وأما المعقول فلكون الاحتياط يقتضي حمل الشيء على أعظم مراتبه وأجيب عن الآية الأولى بمنع تناول قوله‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول‏}‏ للأفعال بوجهين الأول أن قوله‏:‏ ‏{‏وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ يدل على أنه أراد بقوله ما آتاكم ما أمركم‏.‏

الثاني‏:‏ أن الإتيان إنما يأتي في القول والجواب عن الآية الثانية أن المراد بالمتابعة فعل مثل ما فعله فلا يلزم وجوب فعل كل ما فعله ما لم يعلم أن فعله على وجه الوجوب والمفروض خلافه والجواب عن الآية الثالثة أن لفظ الأمر حقيقة في القول بالإجماع ولا نسلم أنه يطلق على الفعل على أن الضمير في أمره يجوز أن يكون راجعا إلى الله سبحانه لأنه أقرب المذكورين والجواب عن الآية الرابعة أن التأسي هو الإتيان بمثل فعل الغير في الصورة والصفة حتى لو فعل صلى الله عليه وسلم شيئا على طريق التطوع وفعلناه على طريق الوجوب لم نكن متأسين به فلا يلزم وجوب ما فعله إلا إذا أدل دليل آخر على وجوبه فلو فعلنا الفعل الذي فعله مجردا عن دليل الوجوب معتقدين أنه واجب علينا لكان ذلك قادحا في التأسي والجواب عن الآية الخامسة أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور أو المراد على اختلاف المذهبين فلا يدل ذلك على وجوب أفعاله صلى الله عليه وسلم وأما الجواب عن دعوى إجماع الصحابة فهم لم يجمعوا على كل فعل يبلغهم بل أجمعوا على الاقتداء بالأفعال على صفتها التي هي ثابتة لها من وجوب أو ندب أو نحوهما والوجوب في تلك الصورة لمذكورة مأخوذ من الأدلة الدالة على وجوب الغسل من الجنابة وأما الجواب عن المعقول فالاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن الغرر قطعا وهاهنا ليس كذلك لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حراما على الأمة وإذا احتمل لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطا‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنه للندب وقد حكاه الجويني في البرهان عن الشافعي فقال وفي كلام الشافعي ما يدل عليه وقال الرازي في المحصول إن هذا القول نسب إلى الشافعي وذكر الزركشي في البحر أنه حكاه عن القفال وأبي حامد المروزي واستدلوا بالقرآن والإجماع والمعقول أما القرآن فقوله ‏{‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏}‏ ولو كان التأسي واجبا لقال عليكم فلما قال لكم دل على عدم الوجوب ولما أتت الأسوة دل على رجحان جانب الفعل على الترك وإن يكن مباحا وأما الإجماع فهو أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب لأنه أقل ما يفيده جانب الرجحان وأما المعقول فهو أن فعله إما أن يكون راجحا على العدم أو مساويا له أو دونه والأول متعين لأن الثاني والثالث مستلزمان أن يكون فعله عبثا وهو باطل وإذا تعين أنه راجح على العدم فالراجح على العدم قد يكون واجبا وقد يكون مندوبا والمتيقن هو الندب وأجيب عن الآية بأن التأسي هو إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه فلو فعله واجبا أو مباحا وفعلناه مندوبا لما حصل التأسي وأجيب عن الإجماع بأنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل لاحتمال أنهم وجدوا مع الفعل قرائن أخر وأجيب عن المعقول بأنا لا نسلم أن فعل المباح عبث لأن العبث هو الخالي عن الغرض فإذا حصل في المباح منفعة ناجزة لم يكن عبثا من حيث حصول النفع به وخرج عن العبث ثم حصول الغرض في التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ومتابعة أفعاله بين فلا يعد من أقسام البعض‏.‏

القول الثالث‏:‏ أن للإباحة قال الرازي في المحصول‏:‏ وهو قول مالك ولم يحك الجويني قول الإباحة هاهنا لأن قصد القربة لا يجامع استواء الطرفين لكن حكاه غيره كما قدمنا عن الرازي وكذلك حكاه ابن السمعاني والآمدي وابن الحاجب حملا على أقل الأحوال واحتج من قال بالإباحة بأنه قد ثبت أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يكون صادرا على وجه يقتضي الإثم لعصمته فثبت أنه لابد أن يكون إما مباحا أو مندوبا أو واجبا وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل فأما رجحان الفعل فلم يثبت على وجوده دليل فثبت بهذا أنه لا حرج في فعله كما أنه لا رجحان في فعله فكان مباحا وهو المتيقن فوجب التوقف عنده وعدم مجاوزته إلى ما ليس بمتيقن ويجاب عنه بأن محل النزاع كما عرفت هو كون ذلك الفعل قد ظهر فيه قصد القربة وظهورها ينافي مجرد الإباحة وإلا لزم أن لا يكون لظهورها معنى يعتد به‏.‏

القول الرابع‏:‏ الوقف قال الرازي في المحصول‏:‏ وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة وهو المختار انتهى وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أكثر أصحاب الشافعي وحكاه أيضا عن الدقاق واختاره القاضي أبو الطيب الطبري وحكاه في اللمع عن الصيرفي وأكثر المتكلمين وعندي أنه لا معنى للوقف في الفعل الذي قد ظهر فيه قصد القربة فإن قصد القربة يخرجه عن الإباحة إلى ما فوقها والمتيقن مما هو فوقها الندب وأما إذا لم يظهر فيه قصد القربة بل كان مجردا مطلقا فقد اختلفوا فيه بالنسبة إلينا على أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أنه واجب علينا وقد روي هذا عن ابن سريج قال الجويني وابن خيران وابن أبي هريرة والطبري وأكثر متأخري الشافعية وقال سليم الرازي أنه ظاهر مذهب الشافعي واستدلوا بنحو ما استدل به القائلون بالوجوب مع ظهور قصد القربة ويجاب عنهم بما أجيب به عن أولئك بل الجواب عن هؤلاء بتلك الأجوبة أظهر لعدم ظهور قصد القربة في هذا الفعل وقد اختار هذا القول أبو الحسين بن القطان والرازي في المعالم قال القرافي‏:‏ وهو الذي نقله أئمة المالكية في كتبهم الأصولية والفروعية ونقله القاضي أبو بكر عن أكثر أهل العراق‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنه مندوب قال الزركشي في البحر وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة ونقله القاضي وابن الصباغ عن الصيرفي والقفال الكبير قال الروياني هو قول الأكثرين وقال ابن القشيري في كلام الشافعي ما يدل عليه قلت هو الحق لأن فعله صلى الله عليه وسلم وإن لم يظهر فيه قصد القربة فهو لابد أن يكون لقربة وأقل ما يتقرب به هو المندوب ولا دليل يدل على زيادة على الندب فوجب القول به ولا يجوز القول بأنه يفيد الإباحة فإن إباحة الشيء بمعنى استواء طرفيه موجودة قبل ورود الشرع به فالقول بها إهمال للفعل الصادر منه صلى الله عليه وسلم فهو تفريط كما أن حمل فعله المجرد على الوجوب إفراط الحق بن المقصر والمغالي‏.‏

القول الثالث‏:‏ أنه مباح نقله الدبوسي في التقويم عن أبي بكر الرازي وقال إنه الصحيح واختاره الجويني في البرهان وهو الراجح عند الحنابلة ويجاب عنه بما ذكرناه قريبا‏.‏

القول الرابع‏:‏ الوقف حتى يقوم دليل نقله ابن السمعاني عن أكثر الأشعرية قال واختاره الدقاق وأبو القاسم بن كج قال الزركشي وبه قال جمهور أصحابنا وقال ابن فورك أنه الصحيح وكذا صححه القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية واستدلوا بأنه لما كان محتملا للوجوب والندب والإباحة مع احتمال أن يكون من خصائصه كان التوقف متعينا ويجاب عنهم بمنع احتماله للإباحة لما قدمنا منع احتمال الخصوصية لأن أفعاله كلها محمولة على التشريع ما لم يدل دليل على الاختصاص وحينئذ فلا وجه للتوقف والعجب من اختيار مثل الغزالي والرازي له‏.‏

البحث الخامس‏:‏ في تعارض الأفعال

اعلم أنه لا يجوز التعارض بين الأفعال بحيث يكون البعث منها ناسخا لبعض أو مخصصا له لجواز أن يكون الفعل في ذلك الوقت واجبا وفي مثل ذلك الوقت بخلافه لأن الفعل لا عموم له فلا يشمل جميع الأوقات المستقبلة ولا يدل على التكرار هكذا قال جمهور أهل الأصول على اختلاف طبقاتهم‏.‏

وحكى ابن العربي في كتاب المحصول ثلاثة أقوال‏:‏ الأول التخيير الثاني تقديم المتأخر كالأقوال إذا تأخر بعضها الثالث حصول التعارض وطلب الترجيح من خارج قال كما أنفق في صلاة الخوف صليت على أربع وعشرين صفة قال مالك والشافعي إنه يرجح من هذه الصفات ما هو أقرب إلى هيئة الصلاة وقدم بعضهم الأخير منها إذا علم انتهى‏.‏

وحكي عن ابن رشد أن الحكم في الأفعال كالحكم في الأقوال‏.‏

وقال القرطبي يجوز التعارض بين الفعلين عند من قال بأن الفعل يدل على الوجوب فإن علم التاريخ فالمتأخر ناسخ وإن جهل فالترجيح وإلا فهما متعارضان كالقولين وأما على القول بأنه يدل على الندب أو الإباحة فلا تعارض وقال الغزالي في المنخول إذا قال فعل وحمل على الوجوب ثم نقل فعل يناقضه فقال القاضي لا يقطع بأنه ناسخ لاحتمال أنه انتهى مدة الفعل الأول قال وذهب ابن مجاهد إلى أنه نسخ وتردد في القول الطارئ على الفعل وجزم إلكيا بعدم تصور تعارض الفعلين ثم استثنى من ذلك ما إذا علم بدليل أنه أريد به إدامته في المستقبل بأنه يكون ما بعده ناسخا له قال وعلى مثله بنى الشافعي مذهبه في سجود السهو قبل السلام وبعده والحق أنه لا يتصور تعارض الأفعال فإنه لا صيغ لها يمكن النظر فيها والحكم عليها بل هي مجرد أكوان متغايرة واقعة في أوقات مختلفة وهذا إذا لم تقع بيانات للأقوال أما إذا وقعت بيانات للأقوال فقد تتعارض في الصورة ولكن التعارض في الحقيقة راجع إلى المبينات من الأقوال لا إلى بيانها من الأفعال وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلوا كما رأيتموني أصلي» فإن آخر الفعلين ينسخ الأول كآخر القولين لأن هذا الفعل بمثابة القول‏.‏

قال الجويني وذهب كثير من الأئمة فيما إذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلان مؤرخان مختلفان أن الواجب التمسك بآخرهما واعتقاد كونه ناسخا للأول قال وقد ظهر ميل الشافعي إلى هذا ثم ذكر ترجيحه للمتأخر من صفات صلاة الخوف وينبغي حمل هذا على الأفعال التي وقعت بيانا كما ذكرنا فإن صلاة الخوف على اختلاف صفاتها واقعة بيانا وهكذا ينبغي حمل ما نقله المازري عن الجمهور من أن المتأخر من الأفعال ناسخ عن ما ذكرنا‏.‏

البحث السادس‏:‏ ‏[‏في التعارض بين أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله‏]‏

إذا وقع التعارض بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وفيه صور وبين ذلك أن ينقسم أولا إلى ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ أن يعلم تقدم القول على الفعل ثانيها أن يعلم تقدم الفعل على القول ثالثهما أن يجهل التاريخ وعلى الأولين إما أن يتعقب الثاني الأول بحيث لا يتخلل بينهما زمان أو يتراخى أحدهما عن الآخر وهذان قسمان إلى الثلاثة المتقدمة يكون الجميع خمسة أقسام وعلى الثلاثة الأول إما أن يكون القول عاما للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته أو خاصا به أو خاصا بأمته فتكون الأقسام ثمانية‏.‏

ثم الفعل إما أن يدل دليل على وجوب تكراره في حقه صلى الله عليه وسلم ووجوب تأسي الأمة به أو لا يدل دليل على واحد منهما أو يقوم دليل على التكرار دون التأسي أو يقوم دليل على التأسي دون التكرار فإذا ضربت الأقسام الأربعة وهي التي يعلم فيها تعقب الفعل للقول وتراخيه عنه وتعقب القول للفعل وتراخيه عنه في الثلاثة التي ينقسم إليها القول من كونه يعم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أو يخصه أو يخص أمته حصل منها اثنا عشر قسما نضربها في أقسام الفعل الأربعة بالنسبة إلى التكرار والتأسي أو عدمهما أو وجود أحدهما دون الآخر فيحصل ثمانية وأربعون قسما وقد قيل إن الأقسام تنتهي إلى ستين قسما وما ذكرناه أولى وأكثر هذه الأقسام غير موجود في السنة فلنتكلم هاهنا على ما يكثر وجوده فيها وهي أربعة عشر قسما‏:‏

الأول‏:‏ أن يكون القول مختصا به مع عدم وجود دليل على التكرار والتأسي وذلك نحو أن يفعل صلى الله عليه وسلم فعلا ثم يقول بعده لا يجوز لي مثل هذا الفعل فلا تعارض بين القول والفعل لأن القول في هذا الوقت لا تعلق له بالفعل في الماضي إذ الحكم يختص بما بعده ولا في المستقبل إذ لا حكم للفعل في المستقبل لأن الغرض عدم التكرار له‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أن يتقدم القول مثل أن يقول لا يجوز لي الفعل في وقت كذا ثم يفعله فيه فيكون الفعل ناسخا لحكم القول‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أن يكون القول خاصا به ويجهل التاريخ فلا تعارض في حق الأمة وأما في حقه صلى الله عليه وسلم ففيه خلاف وقد رجح الوقف‏.‏

القسم الرابع‏:‏ أن يكون القول مختصا بالأمة وحينئذ فلا تعارض لأن القول والفعل لم يتواردا على محل واحد‏.‏

القسم الخامس‏:‏ أن يكون القول عاما له وللأمة فيكون الفعل على تقدير تأخره مخصصا له من عموم القول وذلك كنهيه عن الصلاة بعد العصر ثم صلاته الركعتين بعدها قضاء لسنة الظهر ومداومته عليهما وإلى ما ذكرنا من اختصاص الفعل به صلى الله عليه وسلم ذهب الجمهور قالوا وسواء تقدم الفعل أو تأخر وقال الأستاذ أبو منصور إن تقدم الفعل دل على نسخه القول عند القائلين بدخول المخاطب في عموم خطابه هذا إذا كان القول شاملا له صلى الله عليه وسلم بطريق الظهور كأن يقول لا يحل لأحد أو لا يجوز لمسلم أو لمؤمن وأما إذا كان متناولا له على سبيل التنصيص كأن يقول لا يحل لي ولا لكم فيكون الفعل ناسخا للقول في حقه صلى الله عليه وسلم لا في حقنا فلا تعارض‏.‏

القسم السادس‏:‏ أن يدل دليل على تكرار الفعل وعلى وجوب التأسي فيه ويكون القول خاصا به وحينئذ فلا معارضة في حق الأمة وأما في حقه فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ فإن جهل التاريخ فقيل يؤخذ بالقول في حقه وقيل بالفعل وقيل بالوقف‏.‏

القسم السابع‏:‏ أن يكون القول خاصا بالأمة مع قيام دليل التأسي والتكرار في الفعل فلا تعارض في حقه صلى الله عليه وسلم وأما في حق الأمة فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ وإن جهل التاريخ فقيل يعمل بالفعل وقيل بالقول وهو الراجح لأن دلالته أقوى من دلالة الفعل وأيضا هذا القول الخاص بأمته أخص من الدليل العام الدال على التأسي والخاص مقدم على العام ولم يأت من قال بتقدم الفعل بدليل يصلح للاستدلال به‏.‏

القسم الثامن‏:‏ أن يكون القول عاما له وللأمة مع قيام الدليل على التكرار والتأسي فالمتأخر ناسخ في حقه صلى الله عليه وسلم وكذلك في حقنا وإن جهل التاريخ فالراجح تقدم القول لما تقدم‏.‏

القسم التاسع‏:‏ أن الدليل على التكرار في حقه صلى الله عليه وسلم دون التأسي به ويكون القول خاصا بالأمة وحينئذ فلا تعارض أصلا لعدم التوارد على محل واحد‏.‏

القسم العاشر‏:‏ أن يكون خاصا به صلى الله عليه وسلم مع قيام الدليل على عدم التأسي به فلا تعارض أيضا‏.‏

القسم الحادي عشر‏:‏ أن يكون القول عاما له وللأمة مع عدم قيام الدليل على التأسي به في الفعل فيكون الفعل مخصصا له من العموم ولا تعارض بالنسبة إلى الأمة لعدم وجود دليل يدل على التأسي به وأما إذا جهل التاريخ فالخلاف في حقه صلى الله عليه وسلم كما تقدم في ترجيح القول على الفعل أو العكس أو الوقف‏.‏

القسم الثاني عشر‏:‏ إذا دل الدليل على التأسي دون التكرار أو يكون القول مخصصا به فلا تعارض في حق الأمة وأما في حقه فإن تأخر القول فلا تعارض وإن تقدم فالفعل ناسخ في حقه وإن جهل فالمذاهب الثلاثة في حقه كما تقدم‏.‏

القسم الثالث عشر‏:‏ أن يكون القول خاصا بالأمة ولا تعارض في حقه صلى الله عليه وسلم وأما في حق الأمة فالمتأخر ناسخ لعدم الدليل على التأسي‏.‏

القسم الرابع عشر‏:‏ أن يكون القول عاما له وللأمة مع قيام الدليل على التأسي دون التكرار ففي حق الأمة المتأخر ناسخ وأما في حقه صلى الله عليه وسلم فإن تقدم الفعل فلا تعارض وإن تقدم القول فالفعل ناسخ ومع جهل التاريخ فالراجح القول في حقنا وفي حقه صلى الله عليه وسلم لقوة دلالته وعدم احتماله أو لقيام الدليل هاهنا على عدم التكرار واعلم أن لا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي بل يكفي ما ورد في الكتاب العزيز من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏}‏ وكذلك سائر الآيات الدالة على الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه ولا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي به في كل فعل من أفعاله بل مجرد فعله لذلك الفعل بحيث يطلع عليه غيره من أمته ينبغي أن يحمل على قصد التأسي به إذا لم يكن من الأفعال التي لا يتأسى به فيها كأفعال الجبلة كما قررناه في البحث الذي قبل هذا البحث‏.‏

البحث السابع‏:‏ التقرير

وصورته أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار قول قيل بين يديه أو في عصره وعلم به أو سكت عن إنكار فعل فعل بين يديه أو في عصره وعلم به فإن ذلك يدل على الجواز وذلك كأكل العنب بين يديه قال ابن القشيري‏:‏ وهذا مما لا خلاف فيه وإنما اختلفوا في شيئين أحدهما إذا دل التقرير على انتفاء الحرج فهل يختص بمن قرر أو يعم سائر المكلفين‏؟‏

فذهب القاضي إلى الأول لأن التقرير ليس له صيغة تعم ولا يتعدى إلى غيره وقيل يعم للإجماع على أن التحريم إذا ارتفع في حق واحد ارتفع في حق الكل‏.‏

وإلى هذا ذهب الجويني وهو الحق لأنه في حكم خطاب الواحد وسيأتي أنه يكون غير المخاطب بذلك الحكم من المكلفين كالمخاطب به ونقل هذا القول المازري عن الجمهور هذا إذا لم يكن التقرير مخصصا لعموم سابق أما إذا كان مخصصا لعموم سابق فيكون لمن قرر من واحد أو جماعة‏.‏

وأما إذا كان التقرير في شيء قد سبق تحريمه فيكون ناسخا لذلك التحريم كما صرح به جماعة من أهل الأصول وهو الحق ومما يندرج تحت التقرير إذا قال الصحابي كنا نفعل كذا أو كانوا يفعلون كذا وأضافه إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مما لا يخفى مثله عليه وإن كان مما يخفى مثله عليه فلا ولابد أن يكون التقرير على القول والفعل منه صلى الله عليه وسلم مع قدرته على الإنكار‏.‏

كذا قال جماعة من الأصوليين وخالفهم جماعة من الفقهاء فقالوا إن في خصائصه صلى الله عليه وسلم عدم سقوط وجوب تغيير المنكر بالخوف على النفس لإخبار الله سبحانه بعصمته في قوله‏:‏ ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ ولابد أن يكون المقرر منقاد للشرع فلا يكون تقرير الكافر على قول أو فعل دالا على الجواز قال الجويني ويلحق بالكافر المنافق وخالفه المازري وقال إنا نجري على المنافق أحكام الإسلام ظاهرا لأنه من أهل الإسلام في الظاهر وأجيب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ما يسكت عن المنافقين لعلمه أن الموعظة لا تنفعهم وإذا وقع من النبي صلى الله عليه وسلم الاستبشار بفعل أو قول فهو أقوى في الدلالة على الجواز‏.‏

البحث الثامن‏:‏ ‏[‏هم النبي صلى الله عليه وسلم‏]‏

ما هم به صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، كما روي عنه بأنه هم بمصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة ونحو ذلك فقال الشافعي ومن تابعه إنه يستحب الإتيان بما هم به صلى الله عليه وسلم ولهذا جعل أصحاب الشافعي الهم من جملة أقسام السنة وقالوا يقدم القول ثم الفعل ثم التقرير ثم الهم والحق أنه ليس من أقسام السنة لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تنجيز له وليس ذلك مما آتانا الرسول ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه وقد يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بما هم به للزجر كما صح عنه أنه قال‏:‏ «لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم»‏.‏

البحث التاسع‏:‏ الإشارة والكتابة

كإشارته صلى الله عليه وسلم بأصابعه العشر إلى أيام الشهر ثلاث مرات وقبض في الثالثة واحدة من أصابعه وكتابه صلى الله عليه وسلم إلى أعماله في الصدقات ونحوها ولا خلاف في أن ذلك من جملة السنة ومما تقوم به الحجة‏.‏

البحث العاشر‏:‏ ‏[‏ترك النبي صلى الله عليه وسلم للشيء‏]‏

تركه صلى الله عليه وسلم للشيء كفعله له في التأسي به فيه، قال ابن السمعاني‏:‏ إذا ترك الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا وجب علينا متابعته فيه ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله أمسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم‏:‏ «إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه» وأذن لهم في أكله وهكذا تركه صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل جماعة خشية أن تكتب على الأمة ويتفرع على هذا البحث إذا حدثت حادثة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحكم فيها بشيء هل يجوز لنا أن نحكم في نظائرها الصحيح أنه يجوز خلافا لبعض المتكلمين في قولهم تركه صلى الله عليه وسلم للحكم في حادثة يدل على وجوب ترك الحكم في نظائرها‏.‏

البحث الحادي عشر‏:‏ في الأخبار

وفيه أنواع‏:‏

النوع الأول‏:‏ في معنى الخبر لغة واصطلاحا

أما معناه لغة فهو مشتق من الخبار وهي الأرض الرخوة لأن الخبر يثير الفائدة كما أن الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه وهو نوع مخصوص من القول وقسم من الكلام اللساني وقد يستعمل في غير القول كقول الشاعر‏:‏

تخبرك العينان ما القلب كاتم

وقول المعري‏:‏

نبي من الغربان ليس على شرع *** يخبرنا أن الشعوب إلى صدع

ولكنه استعمال مجازي لا حقيقي لأن من وصف غيره بأنه أخبر بكذا لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول وأما معناه اصطلاحا فقال الرازي في المحصول ذكروا في حده أمور ثلاثة الأول أنه الذي يدخله الصدق أو الكذب والثاني أنه الذي يحتمل التصديق والتكذيب والثالث ما ذكره أبو الحسين البصري أنه كلام مفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفيا أو إثباتا قال واحترزنا بقولنا بنفسه عن الأمر فإنه يفيد وجوب الفعل لكن لا بنفسه لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر ثم إنها تفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك وكذلك القول في دلالة النهي والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر ثم إنها تفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك وكذلك القول في دلالة النهي على قبح الفعل قال الرازي‏:‏ واعلم أن هذه التعريفات دورية أما الأول فلأن الصدق والكذب نوعان تحت جنس الخبر والجنس جزء من ماهية النوع وأعرف منها فإذا لا يمكن تعريف الصدق والكذب إلا بالخبر فلو عرفنا الخبر بهما لزم الدور وأجيب عن هذا بمنع كونهما لا يعرفان إلا بالخبر بل هما ضروريان ثم قال واعترضوا عليه أيضا في ثلاثة أوجه‏:‏

الأول‏:‏ أن كلمة أو للترديد وهو ينافي التعريف ولا يمكن إسقاطها هاهنا لأن الخبر الواحد لا يكون صدقا وكذبا معا‏.‏

الثاني‏:‏ أن كلام الله تعالى لا يدخله الكذب فكان خارجا عن هذا التعريف‏.‏

الثالث‏:‏ من قال محمد صلى الله عليه وسلم ومسيلمة صادقان فهذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب ويمكن أن يجاب عن الأول بأن المعرف لماهية الخبر أمر واحد وهو إمكان تطرق هذين الوصفين إليه وذلك لا ترديد فيه وعن الثاني أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه وخبر الله تعالى كذلك لأنه صدق وعن الثالث بأن قوله محمد ومسيلمة صادقان خبران وإن كانا في اللفظ خبرا واحدا لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإضافته إلى مسيلمة وأحد الخبرين صادق والثاني كاذب سلمنا أنه خبر واحد لكنه كاذب لأنه يقتضي إضافة الصدق إليهما معا وليس الأمر كذلك فكان كاذبا لا محالة وأما التعريف الثاني فالاعتراض عليه أن التصديق والتكذيب عبارة عن كون الخبر صدقا أو كذبا فقولنا الخبر ما يحتمل التصديق والتكذيب جار مجرى قولنا الخبر هو الذي يحتمل الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب فيكون هذا تعريفا للخبر وبالصدق والكذب والأول هو تعريف الشيء بنفسه والثاني تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به وأما التعريف الثالث فالاعتراض عليه من ثلاثة وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن وجود الشيء عند أبي الحسين عين ذاته فإذا قلنا السواد موجود فهذا خبر مع أنه لا يفيد إضافة الشيء إلى شيء آخر‏.‏

والثاني‏:‏ إنا إذا قلنا الحيوان الناطق يمشي فقولنا الحيوان الناطق يقتضي نسبة الناطق إلى الحيوان مع أنه ليس بخبر لأن الفرق بين النعت والخبر معلوم بالضرورة‏.‏

والثالث‏:‏ أن قولنا نفيا وإثباتا يقتضي الدور لأن النفي هو الخبر عن عدم الشيء والإثبات هو الأخبار عن وجود فتعريف الخبر بهما دور قال الرازي وإذا بطلت هذه التعريفات فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر غني عن الحد والرسم بدليلين‏:‏

الأول‏:‏ أن كل أحد يعلم بالضرورة إما أنه موجود وإما أنه ليس بمعدوم وأن الشيء الواحد لا يكون موجودا ومعدوما معا ومطلق الخبر جزء من الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء فلو كان تصور ماهية مطلق الخبر موقوفا على الاكتساب لكان تصور الخبر الخاص أولى بأن يكون كذلك فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضروريا ولما لم يكن كذلك علمنا صحة ما ذكرنا‏.‏

الثاني‏:‏ أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصورا بديهيا لم يكن الأمر كذلك فإن قلت الخبر نوع من أنواع الألفاظ وأنواع الألفاظ ليست تصوراتها بديهية فكيف قلت أن ماهية الخبر متصورة تصورا بديهيا‏؟‏

قلت حكم الذهن بين أمرين بأن أحدهما له الآخر وليس له الآخر معقول واحد لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وكل واحد يدرك من نفسه ويجد تفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية في ألمه ولذته وجوعه وعطشه وإذا ثبت هذا فنقول إن كان المراد من الخبر هو الحكم الذهني فلا شك أن تصوره في الجملة بديهي مركوز في فطرة العقل وإن كان المراد منه اللفظة الدالة على هذه الماهية فالإشكال غير وارد أيضا لأن مطلق اللفظ الدال على المعنى بديهي التصور انتهى ويجاب عنه بأن المراد اللفظ الدال والإشكال وارد ولا نسلم أن مطلق اللفظ الدال بديهي التصور‏.‏

وقد أجيب عما ذكره بأن كون العلم ضروريا كيفية لحصوله وأنه يقبل الاستدلال عليه والذي لا يقبله هو نفس الحصول الذي هو معروض الضرورة فإنه يمتنع أن يكون حاصلا بالضرورة والاستدلال لتنافيهما وأجيب أيضا بأن المعلوم ضرورة إنما هو نسبة الوجود إليه إثباتا وهو غير تصور النسبة التي هي ماهية الخبر فلا يلزم أن تكون ماهية الخبر ضرورية وقيل إن الخبر لا يحد لتعسره وقد تقدم بيانه في تعريف العلم وقيل الأولى في حد الخبر أن يقال هو الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية والمراد بالخارج ما هو خارج عن كلام النفس المدلول عليه بذلك اللفظ فلا يرد عليه قم لأن مدلوله الطلب نفسه وهو المعنى القائم بالنفس من غير أن يشعر بأن له متعلقا واقعا في الخارج وكذا يخرج جميع المركبات التقييدية والإضافية‏.‏

واعترض على هذا الحد بأنه إن كان المراد أن النسبة أمر موجود في الخارج لم يصح في مثل اجتماع الضدين وشريك الباري معدوم محال وأجيب بأن المراد النسبة الخارجية عن المدلول سواء قامت تلك النسبة الخارجية بالذهن كالعلم أو بالخارج عن الذهن كالقيام أو لم تقم بشيء منهما نحو شريك الباري ممتنع والأولى أن يقال في حد الخبر هو ما يصح أن يدخله الصدق والكذب لذاته وهذا الحد لا يرد عليه شيء مما سبق‏.‏

وقد اختلف هل الخبر حقيقة في اللفظي والنفسي أم الحقيقة في اللفظي مجاز في النفسي أم العكس كما وقع الخلاف في الكلام على هذه الثلاثة الأقوال لأن الخبر قسم من أقسامه وإذا عرفت الاختلاف في تعريف الخبر عرفت بأن ما لا يكون كذلك ليس بخبر ويسمونه إنشاء وتنبيها ويندرج فيه الأمر والنهي والاستفهام والنداء والتمني والعرض والترجي والقسم‏.‏

النوع الثاني‏:‏ ‏[‏انقسام الخبر إلى صدق وكذب‏]‏

إن الخبر ينقسم إلى صدق وكذب، وخالف في ذلك القرافي وادعى أن العرب لم تضع الخبر إلا للصدق وليس لنا خبر كذب واحتمال الصدق والكذب إنما هو من جهة المتكلم لا من جهة الواضع ونظيره قولهم الكلام يحتمل الحقيقة والمجاز وقد أجمعوا على أن المجاز ليس من الوضع الأول ثم استدل على ذلك باتفاق اللغويين والنحاة على أن معنى قولنا «قام زيد» حصول القيام له في الزمن الماضي ولم يقل أحد إن معناه صدور القيام أو عدمه وإنما احتماله له من جهة المتكلم لا من جهة اللغة‏.‏

وأجيب عنه بأنه مصادم للإجماع على أن الخبر موضوع لأعم من ذلك وما ادعاه من أن معنى قام زيد حصول القيام له في الزمن الماضي باتفاق أهل اللغة والنحو ممنوع فإن مدلوله الحكم بحصول القيام وذلك يحتمل الصدق والكذب ويجاب عن هذا الجواب بأن هذا الاحتمال إن كان من جهة المتكلم فلا يقدح على القرافي بل هي معترف به كما تقدم عنه وإن كان من جهة اللغة فذلك مجرد دعوى ويقوي ما قاله القرافي إجماع أهل اللغة قبل ورود الشرع وبعده على مدح الصادق وذم الكاذب ولو كان الخبر موضوعا لهما لما كان على من تكلم بما هو موضوع من بأس ثم اعلم أنه قد ذهب الجمهور إلى أنه لا واسطة بين الصدق والكذب لأن الحكم إما مطابق للخارج أو لا والأول الصدق والثاني الكذب وأثبت الجاحظ الواسطة بينهما فقال الخبر إما مطابق للخارج أو لا مطابق والمطابق إما مع اعتقاده أنه مطابق أو لا وغير المطابق إما مع اعتقاد أنه غير مطابق أو لا والثاني منهما وهو ما ليس مع الاعتقاد ليس بصدق ولا كذب واستدل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفترى على الله كذبا أم به جنة‏}‏ ووجه الاستدلال بالآية أنه حصر ذلك في كونه افتراء أو كلام مجنون فعلى تقدير كونه كلام مجنون لا يكون صدقا لأنهم لا يعتقدون كونه صدقا وقد صرحوا بنفي الكذب عنه لكونه قسيمة وما ذاك إلا أن المجنون لا يقول عن قصد واعتقاد‏.‏

وأجيب بأن المراد من الآية أفترى أم لم يفتر، فيكون مجنونا لأن المجنون لا افتراء له والكذب من غير قصد يكون مجنونا أو المراد أقصد فيكون مجنونا أم لم يقصد فلا يكون خبرا والحاصل أن الافتراء أخص من الكذب ومقابلة قد يكون كذبا وإن سلم فقد لا يكون خبرا فيكون هذا حصرا للكذب في نوعيه الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد قال الرازي في المحصول والحق أن المسألة لفظية لأنا نعلم بالبديهة أن كل خبر فإما أن يكون مطابقا للمخبر عنه أو لا يكون مطابقا فإن أريد بالصدق الخبر المطابق كيف كان وبالكذب الخبر الغير المطابق كيف كان وجب القطع بأنه لا واسطة بين الصدق والكذب وإن أريد بالصدق ما يكون مطابقا مع أن المخبر يكون عالما بكونه مطابقا وبالكذب الذي لا يكون مطابقا مع أن المخبر يكون عالما بأنه غير مطابق كان هناك قسم ثالث بالضرورة وهو الخبر الذي لا يعلم قائله أنه مطابق أم لا فثبت أن المسألة لفظية انتهى‏.‏

وقال النظام ومن تابعه من أهل الأصول والفقهاء إن الصدق مطابقة الخبر للاعتقاد والكذب عدم مطابقته للاعتقاد واستدل بالنقل والعقل أما النقل فبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ فإن الله سبحانه حكم في هذه الآية حكما مؤكدا بأنهم كاذبون في قولهم ‏{‏إنك لرسول الله‏}‏ مع مطابقته للواقع فلو كان للمطابقة للواقع أو لعدمها مدخل في الصدق والكذب لما كانوا كاذبين لأن خبرهم هذا مطابق للواقع ولا واسطة بن الصدق والكذب وأجيب بأن التكذيب راجع إلى خبر تضمنه معنى نشهد أنك لرسول الله وهو أن شهادتهم هذه من صميم القلب وخلوص الاعتقاد لأن ذلك معنى الشهادة سيما بعد تأكيده بأن واللام والجملة الاسمية وأجيب أيضا بأن التكذيب راجع إلى زعمهم الفاسد واعتقادهم الباطل لأنهم يعتقدون أنه غير مطابق للواقع وأجيب أيضا بأن التكذيب راجع إلى حلفهم المدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏}‏ ولا يخفى ما في الأجوبة من مزيد التكلف ولكنه ألجأ إلى المصير إليها الجمع بين الأدلة وأما العقل فمن وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن من غلب على ظنه أن زيدا في الدار ثم ظهر أنه ما كان كذلك لم يقل أحد أنه كذب في هذا الخبر بل يقال أخطأ أو وهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن أكثر العمومات والمطلقات مخصصة ومقيدة فلو كان الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه كذبا لتطرق إلى كلام الشارع واحتج الجمهور على ما قالوه من أن صدق الخبر مطابقته وكذبه عدمها بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد‏}‏ فكذبهم الله سبحانه مع كونهم يعتقدون ذلك وبقوله‏:‏ ‏{‏وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين‏}‏ والآيات في هذا المعنى كثيرة ويدل لذلك من السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم أن جماعة من الصحابة قالوا بطل عمل عامر لما رجع سيفه على نفسه فقتله فقال صلى الله عليه وسلم كذب من قال ذلك بل له أجر مرتين فكذبهم صلى الله عليه وسلم مع أنهم أخبروا بما كان في اعتقادهم وفي البخاري وغيره أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح إن سعد بن عبادة قال اليوم تستحل الكعبة فقال صلى الله عليه وسلم كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة‏.‏

واحتجوا بالإجماع على تكذيب اليهود والنصارى في كفرياتهم مع أنا نعلم أنهم يعتقدون صحة تلك الكفريات وكذلك وقع الإجماع على تكذيب الكافر إذا قال الإسلام باطل مع مطابقته لاعتقاده والذي لي أن الخبر لا يتصف بالصدق إلا إذا جمع بين مطابقة الواقع والاعتقاد فإن خالفهما أو أحدهما فكذب فيقال في تعريفهما هكذا الصدق ما طابق الواقع والاعتقاد والكذب ما خالفهما أو أحدهما ولا يلزم على هذا ثبوت واسطة لأن المعتبر هو كلام العقلاء فلا يرد كلام الساهي والمجنون والنائم وجميع أدلة الأقوال المتقدمة تصلح للاستدلال بها على هذا ولا يرد عليه شيء مما ورد عليها فإن قلت من جملة ما استدل به الجمهور الإجماع على تصديق الكافر إذا قال الإسلام حق وهو إنما طابق‏.‏

الواقع لا الاعتقاد قلت ليس النزاع إلا في مدلول الصدق والكذب لغة لا شرعا وهذا الإجماع إنما هو من أهل الشرع لا من أهل اللغة والدليل الذي هو إجماعهم شرعي لا لغوي ولكن الكذب المذموم شرعا هو المخالف للاعتقاد سواء طابق الواقع أو خالفه وذلك لا يمنع من صدق وصف ما خالف الواقع وطابق الاعتقاد بالكذب‏.‏

النوع الثالث‏:‏ في تقسيم الخبر

لغة من حيث هو محتمل للصدق والكذب، لكن قد يقطع بصدقه وقد يقطع بكذبه لأمور خارجة وقد لا يقطع بواحد منهما لفقدان ما يوجب القطع فهذه ثلاثة أقسام‏:‏

القسم الأول‏:‏ المقطوع بصدقه وهو إما أن يعلم بالضرورة أو النظر فالمعلوم بالضرورة بنفسه وهو المتواتر أو بموافقة العلم الضروري وهي الأوليات كقولنا الواحد نصف الاثنين وأما المعلوم بالنظر فهو ضربان‏:‏

الأول‏:‏ أن يدل الدليل على صدق الخبر نفسه فيكون كل من يخبر به صادقا كقولنا العالم حادث‏.‏

والضرب الثاني‏:‏ أن يدل الدليل على صدق المخبر فيكون كل ما يخبر به متحققا وهو ضروب‏:‏ الأول خبر من دل الدليل على أن الصدق وصف واجب له وهو الله عز وجل الثاني من دلت المعجزة على صدقه وهم الأنبياء صلوات الله عليهم الثالث من صدقه الله سبحانه أو رسوله وهو خبر كل الأمة على القول بأن الإجماع حجة قطعية‏.‏

القسم الثاني‏:‏ المقطوع بكذبه وهو ضروب الأول المعلوم خلافه إما بالضرورة كالإخبار باجتماع النقيضين أو ارتفاعهما الثاني المعلوم خلافه إما بالاستدلال كالإخبار بقدم العالم أو بخلاف ما هو من قطعيات الشريعة الثالث الخبر الذي لو كان صحيحا لتوفرت الدواعي على نقله متواترا إما لكونه من أصول الشريعة وإما لكونه أمر غريبا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة الرابع خبر مدعي الرسالة من غير معجزة الخامس كل خبر استلزم باطلا ولم يقبل التأويل ومن ذلك الخبر الآحادي إذا خالف القطعي كالمتواتر‏.‏

القسم الثالث‏:‏ ما لا يقطع بصدقه ولا كذبه وذلك كخبر المجهول فإنه لا يترجح صدقه ولا كذبه وقد يترجح صدقه ولا يقطع بصدقه وذلك كخبر العدل وقد يترجح كذبه ولا يقطع بكذبه كخبر الفاسق‏.‏

النوع الرابع‏:‏ ‏[‏انقسام الخبر إلى متواتر وآحاد‏]‏

أن الخبر باعتبار آخر ينقسم إلى متواتر وآحاد‏.‏

القسم الأول‏:‏ المتواتر

وهو في اللغة عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما مأخوذ من الوتر وفي الاصطلاح خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم وقيل في تعريفه هو خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه وقيل خبر جمع عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم فقولهم من حيث كثرتهم لإخراج خبر قوم يستحيل كذبهم بسبب أمر خارج عن الكثرة كالعلم بمخبرهم ضرورة أو نظرا وكما يخرج من هذا الحد بذلك القيد ما ذكرنا كذلك يخرج من قيد بنفسه في الحد الذي قبله‏.‏

وقد اختلف في العلم الحاصل بالتواتر هل هو ضروري أو نظري فذهب الجمهور إلى أنه ضروري وقال الكعبي وأبو الحسين البصري إنه نظري وقال الغزالي إنه قسم ثالث ليس أوليا ولا كسبيا بل من قبيل القضايا التي قياساتها معها‏.‏

وقال المرتضى والآمدي بالوقف والحق قول الجمهور للقطع بأنا نجد نفوسنا جازمة بوجود البلاد الغائبة عنا ووجود الأشخاص الماضية قبلنا جزما خاليا عن التردد جاريا مجرى جزمنا بوجود المشاهدات فالمنكر لحصول العلم الضروري بالتواتر كالمنكر لحصول العلم الضروري بالمشاهدات وذلك سفسطة لا يستحق صاحبها المكالمة وأيضا لو لم يكن ضروريا لافتقر إلى توسيط المقدمتين واللازم منتف لأنا نعلم بذلك قطعا مع انتفاء المقدمتين لحصوله بالعادة لا بالمقدمتين فاستغنى عن الترتيب واستدل القائل بأنه لا يفيد العلم بقولهم لا ننكر حصول الظن القوي بوجود ما ذكرتم لكن لا نسلم حصول اليقين وذلك لأنا إذا عرضنا على عقولنا وجود المدينة الفلانية أو الشخص الفلاني مما جاء التواتر بوجودهما وعرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين وجدنا الجزم بالثاني أقوى من الجزم بالأول وحصول التفاوت بينهما يدل على تطرق النقيض إلى المرجوح وأيضا جزمنا بهذه الأمور المنقولة بالتواتر ليس بأقوى من جزمنا بأن هذا الشخص الذي رأيته اليوم هو الذي رأيته أمس مع أن هذا الجزم ليس بيقين ولا ضروري لأنه يجوز أن يوجد شخص مساو له في الصورة من كل وجه ويجاب عن هذا بأنه تشكيك في أمر ضروري فلا يستحق صاحبه الجواب كما أن من أنكر المشاهدات لا يستحق الجواب فإنا لو جوزنا أن هذا الشخص المرئي اليوم غير الشخص المرئي أمس لكان ذلك مستلزما للتشكيك في المشاهدات والقائلون بأنه نظري بقولهم لو كان ضروريا لعلم بالضرورة أنه ضروري وأجيب بالمعارضة بأنه لو كان نظريا لعمل بالضرورة كونه نظريا كغيره من النظريات وبالحل وذلك أن الضرورية والنظرية صفتان للعمل ولا يلزم من ضرورية العلم ضرورية صفته‏.‏

واحتج الجمهور أيضا بأن العلم الحاصل بالتواتر لو كان نظريا لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر كالصبيان المراهقين وكثير من العامة فلما حصل ذلك لهم علمنا أنه ليس بنظري وكما يندفع بأدلة الجمهور قول من قال أنه نظري يندفع أيضا قول من قال أنه قسم ثالث وقول من قال بالوقف لأن سبب وقفة ليس إلا تعارض الأدلة عليه وقد اتضح بما ذكرنا أنه لاتعارض فلا وقف واعلم أنه لم يخالف أحد من أهل الإسلام ولا من العقلاء في أن خبر التواتر يفيد العلم وما روي من الخلاف في ذلك عن السمنية والبراهمة فهو خلاف باطل لا يستحق قائله الجواب عليه‏.‏

ثم اعلم أن الخبر المتواتر لا يكون مفيدا للعلم الضروري إلا بشروط منها ما يرجع إلى المخبرين ومنها ما يرجع إلى السامعين فالتي ترجع إلى المخبرين أمور أربعة‏:‏

الأول‏:‏ أن يكونوا عالمين بما أخبروا به غير مجازفين فلو كانوا ظانين لذلك فقط لك يفد القطع هكذا اعتبر هذا الشرط جماعة من أهل العلم منهم القاضي أبو بكر الباقلاني وقيل أنه غير محتاج إليه لأنه إن أريد وجوب علم الكل به فباطل لأنه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين به مقلدا فيه أو ظانا له أو مجازفا وإن أريد وجوب علم البعض فمسلم ولكنه مأخوذ من شرط كونهم مستندين إلى الحس‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ أن يعلموا ذلك عن ضرورة من مشاهدة أو سماع لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه قال الأستاذ أبو منصور فأما إذا تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه واعتقدوه بالنظر والاستدلال أو عن شبهة فإن ذلك لا يوجب علما ضروريا لأن المسلمين مع تواترهم يخبرون الدهرية بحدوث العالم وتوحيد الصانع ويخبرون أهل الذمة بصحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا يقع لهم العلم الضروري بذلك لأن العلم به من طريق الاستدلال دون الاضطرار انتهى ومن تمام هذا الشرط أن لا تكون المشاهدة والسماع على سبيل غلط الحس كما في أخبار النصارى بصلب المسيح عليه السلام وأيضا لابد أن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم فلو أخبروا متلاعبين أو مكرهين على ذلك لم يوثق بخبرهم ولا يلتفت إليه‏.‏

الشرط الثالث‏:‏ أن يبلغ عددهم إلى مبلغ يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب ولا يقيد ذلك بعدد معين بل ضابطه حصول العلم الضروري به فإذا حصل ذلك علمنا أنه متواتر وإلا فلا وهذا قول الجمهور وقال قوم منهم القاضي أبو الطيب الطبري يجب أن يكونوا أكثر من الأربعة لأنه لو كان خبر الأربعة يوجب العلم لما احتاج الحاكم إلى السؤال عن عدالتهم إذا شهدوا عنده وقال ابن السمعاني ذهب أصحاب الشافعي إلى أنه لا يجوز أن يتواتر الخبر بأقل من خمسة فما زاد وحكاه الأستاذ أبو منصور عن الجبائي واستدل بعض أهل هذا القول بأن الخمسة عدد أولي العزم من الرسل على الأشهر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من الضعف مع عدم تعلقه بمحل النزاع بوجه من الوجوه وقيل يشترط أن يكونوا سبعة بعدد أهل الكهف وهو باطل وقيل يشترط عشرة وبه قال الاصطخري واستدل على ذلك بأن ما دونها جمع قلة وهذا استدلال ضعيف أيضا وقيل يشترط أن يكونوا اثني عشر بعدد النقباء لموسى عليه السلام لأنهم جعلوا كذلك لتحصيل العلم بخبرهم وهذا استدلال ضعيف أيضا وقيل يشترط أن يكونوا عشرين لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون‏}‏ وهذا مع كونه في غاية الضعف خارج عن محل النزاع وإن قال المستدل به بأنهم إنما جعلوا كذلك ليفيد خبرهم العلم بإسلامهم فإن المقام ليس مقام خبر ولا استخبار وقد روي هذا القول عن أبي الهذيل وغيره من المعتزلة وقيل يشترط أن يكونوا أربعين كالعدد المعتبر في الجمعة وهذا مع كونه خارجا عن محل النزاع باطل الأصل فضلا عن الفرع وقيل يشترط أن يكونوا سبعين لقوله ‏{‏واختار موسى قومه سبعين رجلا‏}‏ وهذا أيضا استدلال باطل وقيل يشترط أن يكونوا ثلاثمائة وبضعة عشر بعدد أهل بدر وهذا أيضا استدلال باطل خارج عن محل النزاع وقيل يشترط أن يكونوا خمس عشرة مائة بعدد بيعة أهل الرضوان وهذا أيضا باطل‏.‏

وقيل سبع عشرة مائة لأنه عدد أهل بيعة الرضوان وقيل أربع عشرة مائة لأنه عدد أهل بيعة الرضوان وقيل يشترط أن يكونوا جميع الأمة كالإجماع حكي هذا القول عن ضرار بن عمرو وهو بطال وقال جماعة من الفقهاء لابد أن يكونوا بحيث لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد ويالله العجب من جري أقلام العلم بمثل هذه الأقوال التي لا ترجع إلى عقل ولا نقل ولا يوجد بينها وبين محل النزاع جامع وإنما ذكرناه ليعتبر بها المعتبر ويعلم أن القيل والقال قد يكون من أهل العلم في بعض الأحوال من جنس الهذيان فيأخذ عند ذلك حذره من التقليد ويبحث عن الأدلة التي هي من شرع الله الذي شرعه لعباده فإنه لم يشرع لهم إلا ما في كتابه وسنة رسوله‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ وجود العدد المعتبر في كل الطبقات فيروى ذلك العدد عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنه وقد اشترط عدالة النقلة لخبر التواتر فلا يصح أن يكونوا أو بعضهم غير عدول وعلى هذا لابد أن لا يكونوا كفارا ولا فساقا ولا وجه لهذا الاشتراط فإن حصول العلم الضروري بالخبر المتواتر لا يتوقف على ذلك بل يحصل بخبر الكفار والفساق والصغار المميزين والأحرار والعبيد وذلك هو المعتبر وقد اشترط أيضا اختلاف أنساب أهل التواتر واشترط أيضا اختلاف أديانهم واشترط أيضا اختلاف أوطانهم واشترط أيضا كون المعصوم منهم كما يقول الإمامية ولا وجه لشيء من هذه الشروط وأما الشروط التي ترجع إلى السامعين فلابد أن يكونوا عقلاء إذ يستحيل حصول العلم لمن لا عقل له والثاني أن يكونوا عالمين بمدلول الخبر والثالث أن يكونوا خالين عن اعتقاد ما يخالف ذلك الخبر لشبهة تقليد أو نحوه‏.‏

القسم الثاني‏:‏ الآحاد

وهو خبر لا يفيد بنفسه العلم سواء كان لا يفيد أصلا أو يفيده بالقرائن الخارجة عنه فلا واسطة بين المتواتر والآحاد وهذا قول الجمهور وقال أحمد بن حنبل إن خبر الواحد يفيد بنفسه العلم وحكاه ابن حزم في كتاب الأحكام عن داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارث المحاسبي قال وبه نقول وحكاه ابن خوازمنداد عن مالك بن أنس واختاره وأطال في تقريره‏.‏

ونقل الشيخ في التبصرة عن بعض أهل الحديث أنها منها ما يوجب العلم كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر وما أشبهه وحكى صاحب المصادر عن أبي بكر القفال أنه يوجب العلم الظاهر وقيل في تعريفه هو ما لم ينته بنفسه إلى التواتر سواء كثر رواته أو قلوا وهذا كالأول في نفي الواسطة بين التواتر والآحاد وقيل في تعريفه هو ما يفيد الظن واعترض عليه بما لم يفد الظن من الأخبار ورد بأن الخبر الذي لا يفيد الظن لا يراد دخوله في التعريف إذ لا يثبت به حكم والمراد تعريف ما يثبت به الحكم‏.‏

وأجيب عن هذا الرد بأن الحديث الضعيف الذي لم ينته تضعيفه إلى حد يكون به باطلا موضوعا يثبت به الحكم مع كونه لا يفيد الظن ويرد هذا الجواب بأن الضعيف الذي يبلغ ضعفه إلى حد لا يحصل معه الظن لا يثبت به الحكم ولا يجوز الاحتجاج به في إثبات شرع عام وإنما يثبت الحكم بالصحيح والحسن لذاته أو لغيره لحصول الظن بصدق ذلك وثبوته عن الشارع وقد ذهب الجمهور إلى وجوب العمل بخبر الواحد وأنه وقع التعبد به‏.‏

وقال القاشاني والرافضة وابن داود لا يجب العمل به وحكاه الماوردي عن الأصم وابن علية وقال إنهما قالا لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات ويقبل في غيره من أدلة الشرع وحكى الجويني في شرح الرسالة عن هشام والنظام أنه لا يقبل خبر الواحد إلا بعد قرينة تنضم إليه وهو علم الضرورة بأن يخلق الله في قلبه ضرورة الصدق وقال وإليه ذهب أبو الحسين بن اللبان الفرضي قال بعد حكاية هذا عنه فإن تاب فالله يرحمه وإلا فهو مسألة التكفير لأنه إجماع فمن أنكره يكفر‏.‏

قال ابن السمعاني واختلفوا يعني القائلين بعدم وجوب العمل بخبر الواحد في المانع من القبول فقيل منع منع العقل وينسب إلى ابن علية والأصم وقال القاشاني من أهل الظاهر والشيعة منع الشرع فقالوا أنه لا يفيد إلا الظن وأن الظن لا يغني من الحق شيئا ويجاب عن هذا بأنه عام مخصص لما ثبت في الشريعة من العلم بأخبار الآحاد‏.‏

ثم اختلف الجمهور في طريق إثباته فالأكثر منهم قالوا يجب بدليل السمع وقال أحمد بن حنبل والقفال وابن شريح وأبو الحسين البصري من المعتزلة وأبو جعفر الطوسي من الإمامية والصيرفي من الشافعية إن الدليل العقلي دل على وجوب العمل لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء من جهة الخبر الوارد عن الواحد وأما دليل السمع فقد استدلوا من الكتاب بمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن جاءكم فاسق بنبأ‏}‏ وبمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏ ومن السنة بمثل قصة أهل قبا لما أتاهم واحد فأخبرهم أن القبلة قد تحولت فتحولوا وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهم وبمثل بعثه لعماله واحدا بعد واحد وكذلك بعثه بالفرد من الرسل يدعو الناس إلى الإسلام ومن الإجماع بإجماع الصحابة والتابعين على الاستدلال بخبر الواحد وشاع ذلك وذاع ولم ينكره أحد ولو أنكره لنقل إلينا وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم كالقول الصريح‏.‏

قال ابن دقيق العيد ومن تتبع أخبار النبي والصحابة والتابعين وجمهور الأمة ما عدا هذه الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعا انتهى وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العلم بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال فلذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة الصحة أو تهمة للراوي أو وجود معارض راجح أو نحو ذلك‏.‏

‏[‏أقسام خبر الآحاد‏]‏

واعلم أن الآحاد تنقسم إلى أقسام فمنها خبر الواحد وهو هذا الذي تقدم ذكره‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ المستفيض وهو ما رواه ثلاثة فصاعدا وقيل ما زاد على الثلاثة وقال أبو إسحاق الشيرازي أقل ما ثبت به الاستفاضة اثنان قال السبكي والمختار عندنا أن المستفيض ما يعده الناس شائعا‏.‏

القسم الثالث‏:‏ المشهور وهو ما اشتهر ولو في القرن الثاني أو الثالث إلى حد ينقله ثقات لا يتوهم تواطؤهم على الكذب ولا يعتبر الشهرة بعد القرنين هكذا قال الحنفية فاعتبروا التواتر في بعض طبقاته وهي الطبقة التي روته في القرن الثاني أو الثالث فقط فبينه وبين المستفيض عموم وخصوص من وجه لصدقهما على ما رواه الثلاثة فصاعدا ولم يتواتر في القرن الأول ثم تواتر في أحد القرنين المذكورين وانفرد المستفيض إذا لم ينته في أحدهما إلى التواتر وانفراد المشهور فيما رواه اثنان في القرن الأول ثم تواتر في الثاني والثالث وجعل الجصاص المشهور قسما من المتواتر ووافقه جماعة من أصحاب الحنفية وأما جمهورهم فجعلوه قسيما للمتواتر لا قسما منه كما تقدم واعلم أن الخلاف الذي ذكرناه في أول هذا البحث من إفادة خبر الآحاد الظن أو العلم مقيد بما إذا كان خبر واحد لم ينضم إليه ما يقويه وأما إذا انضم إليه ما يقويه أو كان مشهورا أو مستفيضا فلا يجري فيه الخلاف المذكور‏.‏

ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول فكانوا بين عامل به ومتأول له ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم فإن الأمة تلقت ما فيهما بالقبول ومن لم يعلم بالبعض من ذلك فقد أوله والتأويل فرع القبول والبحث مقرر بأدلته في غير هذا الموضع قيل ومن خبر الواحد المعلوم صدقه أن يخبر به في حضور جماعة هي نصاب التواتر ولم يقدحوا في روايته مع كونهم ممن يعرف علم الرواية ولا مانع يمنعهم من القدح في ذلك وفي هذا نظر‏.‏

واختلفوا في خبر الواحد المحفوف بالقرائن فقيل يفيد العلم وقيل لا يفيده وهذا خلاف لفظي لأن القرائن إن كانت قوية بحيث يحصل لكل عاقل عندها العلم كان من المعلوم صدقه أيضا إذا أخبر مخبر بحضرته صلى الله عليه وسلم بخبر يتعلق بالأمور الدينية وسمعه صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه إلا إذا كان الخبر يتعلق بغير الأمور الدينية‏.‏

فرع العلم بخبر الواحد

العلم بخبر الواحد له شروط منها ما هو في المخبر وهو الراوي ومنها ما هو في المخبر عنه وهو مدلول الخبر ومنها ما هو في الخبر نفسه وهو اللفظ الدال أما الشروط الراجحة إلى الراوي فخمسة‏:‏

الأول‏:‏ التكليف فلا تقبل رواية الصبي والمجنون ونقل القاضي الإجماع على رد رواية الصبي واعترض عليه العنبري وقال بل هما قولان للشافعي في إخباره عن القبلة كما حكاه القاضي حسين في تعليقه قال ولأصحابنا خلاف مشهور في قبول روايته في هلال رمضان وغيره قال الفوراني الأصح قبول روايته والوجه في رد روايته أنه قد يعلم أنه غير آثم لارتفاع قلم التكليف عنه فيكذب‏.‏

وقد أجمع الصحابة على عدم الرجوع إلى الصبيان مع أن فيهم من كان يطلع على أحوال النبوة وقد رجعوا إلى النساء وسألوهن من وراء حجاب‏.‏

قال الغزالي في المنخول محل الخلاف في المراهق المتثبت في كلامه أما غيره فلا يقبل قطعا وهذا الاشتراط إنما هو باعتبار وقت الأداء للرواية أما لو تحملها صبيا وأداها مكلفا فقد أجمع السلف على قبولها كما في رواية ابن عباس والحسنين ومن كان مماثلا لهم كمحمود بن الربيع فإنه روى حديث أنه صلى الله عليه وسلم مج في فيه مجة وهو ابن خمس سنين واعتمد العلماء روايته وقد كان من بعد الصحابة من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم يحضرون الصبيان مجالس الروايات ولم ينكر ذلك أحد وهكذا لو تحمل وهو فاسق أو كافر ثم روى وهو عدل مسلم ولا أعرف خلافا في عدم قبول رواية المجنون في حال جنونه أما لو سمع في حال جنونه ثم أفاق فلا يصح ذلك لأنه وقت الجنون غير ضابط وقد روى جماعة إجماع أهل المدينة على قبول رواية الصبيان بعضهم على بعض في الدماء لمسيس الحاجة إلى ذلك لكثرة وقوع الجنايات فيما بينهم إذا انفردوا ولم يحضرهم من تصح شهادته وقيدوه بعدم تفرقهم بعد الجناية حتى يؤدوا الشهادة والأولى عدم القبول وعمل أهل المدينة لا تقوم به الحجة على ما سيأتي على أن نمنع ثبوت هذا الإجماع الفعلي عنهم‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ الإسلام فلا تقبل رواية الكافر من يهودي أو نصراني أو غيرهما إجماعا قال الرازي في المحصول أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب أو لم يعلم قال والمخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا‏؟‏ الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لا تقبل روايته وإلا قبلناها وهو قول أبي الحسين البصري‏.‏

وقال القاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم لنا أن المقتضى للعمل بها قائم ولا معارض فوجب العمل بها بيان أن المقتضى قائم أن الاعتقاد لحرمة الكذب يزجره عن الإقدام عليها فيحصل ظن الصدق فيجب العمل بها وبيان أنه لا معارض أنهم أجمعوا على أن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل روايته وذلك الكفر منتف هاهنا قال واحتج المخالف بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا‏}‏ فأمر بالتثبت عند نبأ الفاسق وهذا الكافر فاسق فوجب التثبت عند خبره وأما القياس فقد أجمعنا على أن الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة لا نقبل روايته فكذا هذا الكافر والجامع أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين وهذا منصب شريف والكفر يقتضي الإذلال وبينهما منافاة أقصى ما في الباب أن يقال هذا الكافر جاهل لكونه كافرا لكنه لا يصلح عذرا والجواب عن الأول أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم على الكبيرة وعن الثاني الفرق بين الموضعين أن الكفر الخارج عن الملة أغلظ من كفر صاحب التأويل وقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة ومع ظهور الفرق لا يجوز الجمع هكذا‏.‏

قال الرازي والحاصل أنه إن علم من مذهب المبتدع جواز الكذب مطلقا لم تقبل روايته قطعا وإن علم من مذهبه جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة مذهبه أو الكذب فيما هو ترغيب في طاعة أو ترهيب عن معصية فقال الجمهور ومنهم القاضيان أبو بكر وعبد الجبار والغزالي والآمدي لا يقبل قياسا على الفاسق بل هو أولى‏.‏

وقال أبو الحسين البصري يقبل وهو رأي الجويني وأتباعه والحق عدم القبول مطلقا الأول وعدم قبوله في ذلك الأمر الخاص في الثاني ولا فرق في هذا بين المبتدع الذي يكفر ببدعته وبين المبتدع الذي لا يكفر ببدعته وأما إذا كان ذلك المبتدع لا يستجيز الكذب فاختلفوا فيه على أقوال الأول رد روايته مطلقا لأنه قد فسق ببدعته فهو كالفاسق بفعل المعصية‏.‏

وبه قال القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والقول الثاني أنه يقبل وهو ظاهر مذهب الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي يوسف والقول الثالث أنه إذا كان داعية إلى بدعته لم يقبل وإلا قبل وحكاه القاضي عبد الوهاب في المخلص عن مالك وبه جزم سليم قال القاضي عياض وهذا يحتمل أنه إذا لم يدع يقبل ويحتمل أنه لا يقبل مطلقا انتهى والحق أنه لا يقبل فيما يدعو إلى بدعته ويقويها لا في غير ذلك قال الخطيب وهو مذهب أحمد ونسبه ابن الصلاح إلى الأكثرين قال وهو أعدل المذاهب وأولاها وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجا واستشهادا كعمران بن حطان وداود بن الحصين وغيرهما‏.‏

ونقل أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات الإجماع على ذلك قال ابن دقيق العيد جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقا عليه وليس كما قال وقال ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام الخلاف إنما هو في غير الداعية فهو ساقط عند الجمع قال أبو الوليد الباجي الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهر بدعته بمعنى حمل الناس عليها فلم يختلف في ترك حديثه‏.‏

الشرط الثالث‏:‏ العدالة قال الرازي في المحصول هي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى يحصل ثقة النفس بدقة ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف بالحبة وسرقة باقة من البقل وعن المباحات القادحة في المروءة كالأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأرذال والإفراط في المزاج والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن من جراءته على الكذب يرد الرواية ومالا فلا انتهى وأصل العدالة في اللغة الاستقامة يقال‏:‏ «طريق عدل»‏:‏ أي مستقيم وتطلق على استقامة السيرة والدين قال الزركشي في البحر‏:‏ واعلم أن العدالة شرط بالاتفاق ولكن اختلف في معناها فعند الحنفية عبارة عن الإسلام مع عدم الفسق وعندنا ملكة في النفس تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة والرذائل المباحة كالبول في الطريق والمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة‏.‏

قال ابن القشيري والذي صح عن الشافعي أنه قال في الناس من يمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية وفي المسلمين من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة فلا سبيل إلى رد الكل ولا إلى قبول الكل فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وروايته وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها قال ابن السمعاني لابد في العدل من أربع شرائط المحافظة على فعل الطاعة واجتناب المعصية وأن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض وأن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الندم وأن لايعتقد من المذاهب ما يرده أصول الشرع قال الجويني الثقة هي المعتمد عليها في الخبر فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل‏.‏

وقال ابن الحاجب في العدالة‏:‏ هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة فزاد قيد عدم البدعة وقد عرفت ما هو الحق في أهل البدع في الشرط الذي مر قبل هذا والأولى أن يقال في تعريف العدالة إنها التمسك بآداب الشرع فمن تمسك بها فعلاوتركا فهو العدل المرضي ومن أخل بشيء منها فإن كان الإخلال بذلك الشيء يقدح في دين فاعله أو تاركه كفعل الحرام وترك الواجب فليس بعدل وأما اعتبار العادات الجارية بين الناس المختلفة باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال فلا مدخل لذلك في هذا الأمر الديني الذي تنبني عليه قنطرتان عظيمتان وجسران كبيران وهما الرواية والشهادة نعم من فعل ما يخالف ما يعده الناس مروءة عرفا لا شرعا فهو تارك للمروءة العرفية ولا يستلزم ذلك ذهاب مروءته الشرعية‏.‏

وقد اختلف الناس هل المعاصي منقسمة إلى صغائر وكبائر أم هي قسم واحد‏؟‏ فذهب الجمهور إلى أنها منقسمة إلى صغائر وكبائر ويدل على ذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان‏}‏ ويدل عليه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم متواترا من تخصيص بعض الذنوب باسم الكبائر وبعضها بأكبر الكبائر وذهب جماعة إلى أن المعاصي قسم واحد ومنهم الأستاذ أبو إسحاق والجويني وابن فورك ومن تابعهم قالوا إن المعاصي كلها كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر كما يقال الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا وكلها كبائر قالوا ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه‏}‏ إن تجتنبوا الكفر كفرت عنكم سيآتكم التي هي دون الكفر والقول الأول راجح وهاهنا مذهب ثالث ذهب إليه الحلمي فقال إن المعاصي تنقسم حد الكبائر إلى ثلاثة أقسام‏:‏ صغيرة وكبيرة وفاحشة فقتل النفس بغير حق كبيرة فإن قتل ذا رحم له ففاحشة فأما الخدشة والضربة مرة أو مرتين فصغيرة وجعل سائر الذنوب هكذا‏.‏

ثم اختلفوا في الكبائر هل تعرف بالحد أو لا تعرف إلا بالعدد‏؟‏ فقال الجمهور إنها تعرف بالحد ثم اختلفوا في ذلك فقيل إنها المعاصي الموجبة للحد وقال بعضهم هي ما يلحق صاحبها وعيد شديد وقال آخرون ما يشعر بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وثيل ما كان فيه مفسدة وقال الجويني ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في حقه وقيل ما ورد الوعيد عليه مع الحد أو لفظ يفيد الكبر وقال جماعة إنها لا تعرف إلا بالعدد ثم اختلفوا هل تنحصر في عدد معين أم لا‏؟‏ فقيل هي سبع وقيل تسع وقيل عشر وقيل اثنتا عشرة وقيل أربع عشرة وقيل ست وثلاثون وقيل سبعون وإلى السبعين أنهاها الحافظ الذهبي في جزء صنفه في ذلك وقد جمع ابن حجر الهيتمي فيها مصنفا حافلا سماه الزواجر في الكبائر وذكر فيه نحو أربعمائة معصية وبالجملة فلا دليل يدل على انحصارها في عدد معين ومن المنصوص عليه منها القتل والزنا واللواطة وشرب الخمر والسرقة والغصب والقذف والنميمة وشهادة الزور واليمين الفاجرة وقطيعة الرحم والعقوق والفرار من الزحف وأخذ مال اليتيم وخيانة الكيل والوزن والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم الصلاة وتأخيرها وضرب المسلم وسب الصحابة وكتمان الشهادة والرشوة والدياثة ومنع الزكاة واليأس من الرحمة أو من المكر والظهار وأكل لحم الخنزير والميتة وفطر رمضان والربا والغلول والسحر وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونسيان القرآن بعد تعلمه وإحراق الحيوان بالنار وامتناع الزوجة عن زوجها بلا سبب وقد قيل أن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به وإنما هي مقالة لبعض الصوفية فإنه قال لا صغيرة مع إصرار وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثا ولا يصح ذلك بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه فالإصرار على الصغيرة صغيرة والإصرار على الكبيرة كبيرة‏.‏

وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا عدالة لفاسق وقد حكى مسلم في صحيحه الإجماع على رد خبر الفاسق فقال أنه غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم قال الجويني والحنفية وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فلم يوجبوا بقبول روايته فإن قال به قائل فهو مسبوق بالإجماع قال الرازي في المحصول إذا أقدم على الفسق فإن علم كونه فسقا لم تقبل روايته وإن لم يعلم كونه فسقا فإما أن يكون مظنونا أو مقطوعا فإن كان مظنونا قبلت روايته بالاتفاق قال وإن كان مقطوعا به قبلت أيضا لنا أن ظن صدقه راجح والعلم بهذا الظن واجب والمعارض المجمع عليه منتف فوجب العمل به احتج الخصم بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق أقصى ما في الباب أنه جهل فسقه لكن جهله بفسقه فسق آخر فإذا منع أحد الفسقين عن قبول الرواية فالفسقان أولى بذلك المنع والجواب أنه إذا علم كونه فسقا دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية بخلافه إذا لم يعلم ذلك ويجاب عن هذا الجواب أن إخلاله بأمور دينه إلى حد يجهل معه ما يوجب الفسق يدل أبلغ دلالة على اجترائه على دينه وتهاونه بما يجب عليه من معرفته‏.‏

واختلف أهل العلم في رواية المجهول‏:‏ أي مجهول الحال مع كونه معروف العين برواية عدلين عنه فذهب الجمهور كما حكاه ابن الصلاح وغيره عنهم أن روايته غير مقبولة وقال أبو حنيفة تقبل روايته اكتفاء بسلامته من التفسيق ظاهرا وقال جماعة إن كان الراويان أو الرواة عنه لا يروون عن غير عدل قبل وإلا فلا وهذا الخلاف فيمن لا يعرف حاله ظاهرا ولا باطنا وأما من كان عدلا في الظاهر ومجهول العدالة في الباطن فقال أبو حنيفة يقبل ما لم يعلم الجرح وقال الشافعي لا يقبل ما لم تعلم العدالة وحكاه إلكيا عن الأكثرين وذكر الأصفهاني أن المتأخرين من الحنفية قيدوا القول بالقبول بصدر الإسلام بغلبة العدالة على الناس إذ ذاك قالوا وأما المستور في زماننا فلا يقبل لكثرة الفساد وقلة الرشاد وقال الجويني بالوقف إذا روى التحريم إلى ظهور حاله ولنا مجهول العين وهو من لم يشتهر ولم يرو عنه إلا رواه واحد فذهب جمهور أهل العلم أنه لا يقبل ولم يخالف في ذلك إلا من لم يشترط في الراوي إلا مجرد الإسلام‏.‏

وقال ابن عبد البر إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل كابن مهدي وابن معين ويحيى القطان فإنه تنتفي وترتفع عنه الجهالة العينية وإلا فلا وقال أبو الحسين بن القطان أن زكاة أحد من أئمة الجرح والتعديل مع روايته عنه وعمله بما رواه قبل إلا فلا وهذا هو ظاهر تصرف ابن حبان في ثقاته فإنه يحكم برفه الجهالة برواية واحدة وحكى ذلك عن النسائي أيضا قال أبو الوليد الباجي ذهب جمهور أصحاب الحديث إلى أن الراوي إذا روى عنه اثنان فصاعدا انتفت عنه الجهالة وهذا ليس بصحيح عند المحققين من أصحاب الأصول لأنه قد يروي الجماعة عن الواحد لا يعرفون حاله ولا يخبرون شيئا من أمره ويحدثون بما رووا عنه على الجهالة إذ لم يعرفوا عدالته انتهى وفيه نظر لأنهم إنما يقولون بارتفاع جهالة العين برواية الاثنين فصاعدا عنه لا بارتفاع جهالة الحال كما سبق والحق لأنها لا تقبل رواية مجهول العين ولا مجهول الحال لأن حصول الظن بالمروي لا يكون إلا إذا كان الراوي عدلا وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على المنع من العمل بالظن كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إن الظن لا يغني من الحق شيئا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏ وقام الإجماع على قبول رواية العدل فكان كالمخصص لذلك العموم فبقي من ليس بعدل داخلا تحت العمومات وأيضا قد تقرر عدم قبول رواية الفاسق ومجهول العين أو الحال يحتمل أن يكون فاسقا وأن يكون غير فاسق فلا تقبل روايته مع هذا الاحتمال لأن عدم الفسق شرط في جواز الرواية عند فلابد من العلم بوجود هذا الشرط وأيضا وجود الفسق مانع من قبول روايته فلابد من العلم بانتفاء هذا المانع‏.‏

وأما استدلال من قال بالقبول بما يرونه من قوله صلى الله عليه وسلم نحن نحكم بالظاهر فقال الذهبي والمزي وغيرهما من الحفاظ لا أصل له وإنما هو من كلام بعض السلف ولو سلمنا أن له أصلا لم يصلح للاستدلال به على محل النزاع لأن صدق المجهول غير ظاهر بل صدقه وكذبه مستويان وإذا عرفت هذا فلا يصدهم ما استشهدوا به لهذا الحديث الذي لم يصح بمثل قوله صلى الله عليه وسلم إنما أقضي بنحو ما أسمع وهو في الصحيح وبما روي من قوله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس يوم بدر لما اعتذر بأنه أكره على الخروج فقال كان ظاهرك علينا وبما في صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه إنما نؤاخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ الضبط فلابد أن يكون الراوي ضابطا لما يرويه ليكون المروي له على ثقة منه في حفظه وقلة غلطه وسهوه فإن كان كثير الغلط والسهو ردت روايته إلا فيما علم أنه لم يغلط فيه ولا سها عنه وإن كان قليل الغلط قبل خبره إلا فيما يعلم أنه غلط فيه كذا قال ابن السمعاني وغيره قال أبو بكر الصيرفي‏:‏ من أخطأ في حديث فليس بدليل على الخطأ في غيره ولم يسقط لذلك حديثه ومن كثر بذلك خطؤه وغلطه لم يقبل خبره لأن المدار على حفظ الحكاية‏.‏

قال الترمذي في العلل كل من كان متهما في الحديث بالكذب أو كان مغفلا يخطئ الكثير فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه انتهى والحاصل أن الأحوال ثلاثة إن غلب خطؤه وسهوه على حفظه فمردود إلا فيما علم أنه لم يخطئ فيه وإن غلب حفظه على خطئه وسهوه فمقبول إلا فيما علم أنه أخطأ فيه وإن استويا بالخلاف قال القاضي عبد الجبار يقبل لأن جهة التصديق راجحة في خبره لعقله ودينه وقال الشيخ أبو إسحاق أنه يرد وقيل إنه يقبل خبره إذا كان مفسرا وهو أن يذكر من روى عنه ويعين وقت السماع منه وما أشبه ذلك وإلا فلا يقبل وبه قال القاضي حسين وحكاه الجويني عن الشافعي في الشهادة ففي الرواية أولى‏.‏

وقد أطلق جماعة من المصنفين في علوم الحديث أو الراوي إن كان تام الضبط مع بقية الشروط المعتبرة فحديثه من قسم الصحيح وإن خف ضبطه فحديثه من قسم الحسن وإن كثر غلطه فحديثه من قسم الضعيف ولابد من تقييد هذا بما إذا لم يعلم بأنه لم يخطئ فيم رواه قال إلكيا الطبري ولا يشترط انتفاء الغفلة ولا يوجب لحوق الغفلة له رد حديثه إلا أن يعلم أنه قد لحقته الغفلة فيه بعينه وما ذكره صحيح إذا كان ممن تعتريه الغفلة في غير ما يرويه كما وقع ذلك لجماعة من الحفاظ فإنهم قد تلحقهم الغفلة في كثير من أمور الدنيا فإذا رووا كانوا من أحذق الناس بالرواية وأنبههم فيما يتعلق بها وليس من شرط الضبط أن يضبط اللفظ بعينه كما سيأتي‏.‏

الشرط الخامس‏:‏ أن لا يكون الراوي مدلسا وسواء كان التدليس في المتن أو في الإسناد أما التدليس في المتن فهو أن يزيد في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام غيره فيظن السامع أن الجميع من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما التدليس في الإسناد فهو على أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ أن يكون في إبدال الأسماء فيعبر عن الراوي وعن أبيه بغير اسميهما وهذا نوع من الكذب‏.‏

وثانيهما‏:‏ أن يسميه بتسمية غير مشهورة فيظن السامع أنه رجل آخر غير من قصده الراوي وذلك مثل من يكون مشهورا باسمه فيذكره الراوي بكنيته أو العكس إيهاما للمروي له بأنه رجل آخر غير ذلك الرجل فإن كان مقصد الراوي بذلك التغرير على السامع بأن المروي عنه غير ذلك الرجل فلا يخلو إما أن يكون ذلك الرجل المروي عنه ضعيفا وكان العدول إلى غير المشهور من اسمه أو كنيته ليظن السامع أنه رجل آخر غير ذلك الضعيف فهذا التدليس قادح في عدالة الراوي وإما أن يكون مقصد الراوي مجرد الإغراب على السامع مع كون المروي عنه عدلا على كل حال فليس هذا النوع من التدليس بجرح كما قال ابن الصلاح وابن السمعاني وقال أبو الفتح بن برهان هو جرح‏.‏

وثالثهما‏:‏ أن يكون التدليس بإطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الرواية إلى من هو أبعد منه مثل أن يترك شيخه ويروي الحديث عن شيخ شيخه فإن كان المتروك ضعيفا فذلك من الخيانة في الرواية ولا يفعله إلا من ليس بكامل العدالة وإن كان المتروك ثقة وترك ذكره لغرض من الأغراض التي لا تنافي الأمانة والصدق ولا تتضمن التغرير على السامع فلا يكون ذلك قادحا في عدالة الراوي لكن إذا جاء في الرواية بصيغة محتملة نحو أن يقول‏:‏ قال فلان أو روي عن فلان أو نحو ذلك أما لو قال حدثنا فلان أو أخبرنا وهو لم يحدث ولم يخبره بل الذي حدثه أو أخبره هو من ترك ذكره فذلك كذب يقدح في عدالته والحاصل أن من كان ثقة واشتهر بالتدليس فلا يقبل إلا إذا قال حدثنا أو أخبرنا أو سمعت لا إذا لم يقل كذلك لاحتمال أن يكون قد أسقط من لا تقوم الحجة بمثله‏.‏

أما الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر فالأول‏:‏ منها أن لا يستحيل وجوده في العقل فإن أحاله العقل رد‏.‏

والشرط الثاني‏:‏ أن لا يكون مخالفا لنص مقطوع به على وجه لا يمكن الجمع بينهما بحال‏.‏

والشرط الثالث‏:‏ أن لا يكون مخالفا لإجماع الأمة عند من يقول بأنه حجة قطعية وأما إذا خالف القياس القطعي فقال الجمهور أنه مقدم على القياس وقيل إن كانت مقدمات القياس قطعية قدم القياس وإن كانت ظنية قدم الخبر وإليه ذهب أبو بكر الأبهري وقال القاضي أبو بكر الباقلاني إنهما متساويان وقال عيسى بن أبان إن كان الراوي ضابطا عالما قدم خبره وإلا محل اجتهاد وقال أبو الحسين البصري إن كانت العلة ثابتة بدليل قطعي فالقياس مقدم وإن كان حكم الأصول مقطوعا به خاصة دون العلة فالاجتهاد فيه واجب حتى يظهر ترجيح أحدهما فيعمل به وإلا فالخبر مقدم وقال أبو الحسين الصيمري لا خلاف في العلة المنصوص عليها وإنما الخلاف في المستنبطة قال إلكيا قدم الجمهور خبر الضابط على القياس لأن القياس عرضه الزلل انتهى والحق تقديم الخبر الخارج من مخرج صحيح أو حسن على القياس مطلقا إذا لم يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه كحديث المصراة وحديث العرايا فإنهما مقدمان على القياس وقد كان الصحابة التابعون إذا جاءهم الخبر لم يلتفتوا إلى القياس ولا ينظروا فيه وما روى عن بعضهم من تقديم القياس في بعض المواطن فبعضه غير صحيح وبعضه محمول على أنه لم يثبت الخبر عند من قدم القياس بوجه من الوجوه‏.‏

ومما يدل على تقديم الخبر على القياس حديث معاذ فإنه قدم العمل بالكتاب والسنة على اجتهاده ومما يرجح تقديم الخبر على القياس أن الخبر يحتاج إلى النظر في أمرين‏:‏ عدالة الراوي ودلالة الخبر والقياس يحتاج إلى النظر في ستة أمور حكم الأصل وتعليله في الجملة وتعين الوصف الذي به التعليل ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع هذا إذا لم يكن دليل الأصل خبرا فإن كان خبرا كان النظر في ثمانية أمور الستة المذكورة مع الاثنين المذكورين في الخبر ولا شك أن ما كان يحتاج إلى النظر في أمور كثيرة كان احتمال الخطأ فيه أكثر مما يحتاج إلى النظر في أقل منها‏.‏

واعلم أنه لا يضر الخبر عمل أكثر الأمة بخلافة لأن قول الأكثر ليس بحجة ولا يضره عمل أهل المدينة بخلافه خلافا لمالك وأتباعه لأنهم بعض الأمة ولجواز أنه لم يبلغهم الخبر ولا يضره عمل الراوي له بخلافه خلافا لجمهور الحنفية وبعض المالكية لأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر ولم نتعبد بما فهمه الراوي ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصلح للاستدلال بها وسيأتي لهذا البحث مزيد بسط في الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر ولا يضره كونه مما تعم به البلوى خلافا للحنفية وأبي عبد الله البصري لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك ولا يضره كونه في الحدود والكفارات خلافا للكرخي من الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحد قوليه ولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية واستدلالهم بحديث‏:‏ «ادرءوا الحدود بالشبهات» باطل فالخبر الموجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها ولا يضره أيضا كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية خلافا للحنفية فقالوا إن خبر الواحد إذا ورد بالزيادة في حكم القرآن أو السنة القطعية كان نسخا لا يقبل والحق القبول لأنها زيادة غير منافية للمزيد فكانت مقبولة ودعوى أنها ناسخة ممنوعة وهكذا إذا ورد الخبر مخصصا للعام من كتاب أو سنة فإن مقبول ويبنى العام على الخاص خلافا لبعض الحنفية وهكذا إذا ورد مقيدا لمطلق الكتاب أو السنة القطعية وقسم الهندي خبر الواحد إذا خصص عموم الكتاب أو السنة المتواترة أو قيد مطلقهما إلى ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ أن ما لا يعلم مقارنته له ولا تراخيه عنه فقال القاضي عبد الجبار يقبل لأن الصحابة رفعت كثيرا من أحكام القرآن بأخبار الآحاد ولم يسألوا عنها هل كانت مقارنة أم لا‏؟‏ قال وهو أولى لأن حمله على كونه مخصصا مقبولا أولى من حمله على كونه ناسخا مردودا‏.‏

الثاني‏:‏ أن يعلم مقارنته له فيجوز عند من يجوز تخصيص المقطوع بالمظنون‏.‏

الثالث‏:‏ أن يعلم تراخيه عنه وهو ممن لم يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب لم يقبله لأن لو قبله لقبل ناسخا وهو غير جائز ومن جوزه قبله إن كان ورد قبل حضور وقت العمل به وأما إذا ورد بعده فلا يقبل بالاتفاق انتهى وسيأتي تحقيق البحث في التخصيص للعام والتقييد للمطلق ولا يضره كون راويه انفرد بزيادة فيه على ما رواه غيره إذا كان عدلا فقد يحفظ الفرد ما لا يحفظه الجماعة وبه قال الجمهور إذا كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد أما إذا كانت منافية فالترجيح ورواية الجماعة أرجح من رواية الواحد وقيل لا نقبل رواية الواحد إذا خالفت رواية الجماعة وإن كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد إذا كان مجلس السماع واحدا وكانت الجماعة بحيث لا يجوز عليهم الغفلة عن مثل تلك الزيادة وأما إذا تعدد مجلس السماع فتقبل تلك الزيادة بالاتفاق ومثل انفراد العدل بالزيادة انفراده برفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقفه الجماعة وكذا انفراده بإسناد الحديث الذي أرسلوه وكذا انفراده بوصل الحديث الذي قطعوه فإن ذلك مقبول منه لأنه زيادة على ما رووه وتصحيح لما أعلوه ولا يضره أيضا كونه خارجا مخرج ضرب الأمثال وروي عن إمام الحرمين أنه لا يقبل لأنه موضع تجوز فأجيب عنه بأنه وإن كان موضع تجوز فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقا لمكان العصمة‏.‏

وأما الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر‏:‏ فإنه علم أن للراوي في نقل ما يسمعه أحوالا‏:‏

الأول‏:‏ أن يرويه بلفظه فقد أدى الأمانة كما سمعها ولكنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله جوابا عن سؤال سائل فإن كان الجواب مستغنيا عن ذكر السؤال كقوله صلى الله عليه وسلم في ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته فالراوي محير بين أن يذكر السؤال أو يتركه وإن كان الجواب غير مستغن عن ذكر السؤال كما في سؤاله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص إذا جف‏؟‏ فقيل نعم فقال فلا إذا فلابد من ذكر السؤال وهكذا لو كان الجواب يحتمل أمرين فإذا نقل الراوي السؤال لم يحتمل إلا أمرا واحدا فلابد من ذكر السؤال وعلى كل حال فذكر السؤال مع ذكر الجواب وما ورد على سبب أولى من الإهمال‏.‏

الحال الثاني‏:‏ أن يرويه بغير لفظه بل بمعناه وفيه ثمانية مذاهب‏:‏

الأول‏:‏ منها أن ذلك جائز من عارف بمعاني الألفاظ لا إذا لم يكن عارفا فإنه لا يجوز له الرواية بالمعنى قال القاضي في التقريب بالإجماع ومنهم من شرط أن يأتي بلفظ مرادف كالجلوس مكان القعود أو العكس ومنهم من شرط أن يكون ما جاء به مساويا للأصل في الجلاء والخفاء فلا يأتي مكان الجلي بما هو دونه في الجلاء ولا مكان العام بالخاص ولا مكان المطلق بالمقيد ولا مكان الأمر بالخبر ولا عكس ذلك وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر مما تعبدنا بلفظه كألفاظ الاستفتاح والتشهد وهذا الشرط لابد منه وقد قيل إنه مجمع عليه وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من باب المتشابه كأحاديث الصفات وحكى إلكيا الطبري الإجماع على هذا لأن اللفظ الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري هل يساويه اللفظ الذي تكلم به الراوي ويحتمل ما يحتمله من وجوه التأويل أم لا وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من جوامع الكلم فإن كان من جوامع الكلم كقوله‏:‏ «إنما الأعمال بالنيات»، «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، «الحرب خدعة»، «الخراج بالضمان»، «العجماء جبار البينة على المدعي» لم تجز روايته بالمعنى وشرط بعضهم أن يكون الخبر من الأحاديث الطوال وأما الأحاديث القصار فلا يجوز روايتها بالمعنى ولا وجه لهذا قال ابن الأنباري في شرح البرهان للمسألة ثلاث صور‏:‏

أحدها‏:‏ أن يبدل اللفظ بمرادفه كالجلوس بالقعود وهذا جائز بلا خلاف‏.‏

وثانيها‏:‏ أن يظن دلالته على مثل ما دل عليه الأول من غير أن يقطع بذلك فلا خلاف في امتناع التبديل‏.‏

ثالثها‏:‏ أن يقطع بفهم المعنى ويعبر عما فهم بعبارة يقطع بأنها تدل على ذلك المعنى الذي فهمه من غير أن تكون الألفاظ مترادفة فهذا موضع الخلاف والأكثرون على أنه متى حصل القطع بفهم المعنى مستندا إلى اللفظ إما بمجرده أو إليه مع القرائن التحق بالمترادف‏.‏

المذهب الثاني‏:‏ المنع من الرواية بالمعنى مطلقا بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين العارف وغيره هكذا نقله القاضي عن كثير من السلف وأهل التحري في الحديث وقال أنه مذهب مالك ونقله الجويني والقشيري عن معظم المحدثين وبعض الأصوليين وحكي عن أبي بكر الرازي من الحنفية وهو مذهب الظاهرية نقله عنهم القاضي عبد الوهاب ونقله ابن السمعاني عن عبد الله بن عمر وجماعة من التابعين منهم ابن سيرين وبه قال الأستاذ أبو إسحق الإسفرائيني ولا يخفى ما في هذا المذهب من الحرج البالغ أو المخالفة لما كان عليه السلف والخلف من الرواة كما تاره في كثير من الأحاديث التي يرويها جماعة فإن غالبها بألفاظ مختلفة مع الاتحاد في المعنى المقصود بل قد ترى الواحد من الصحابة فمن بعدهم يأتي في بعض الحالات بلفظ في رواية وفي أخرى بغير ذاك اللفظ مما يؤدي معناه وهذا أمر لا شك فيه‏.‏

المذهب الثالث‏:‏ الفرق بين الألفاظ التي لا مجال للتأويل فيها وبين الألفاظ التي للتأويل فيها مجال فيجوز النقل بالمعنى في الأول دون الثاني حكاه أبو الحسين بن القطان عن بعض أصحاب الشافعي واختاره إلكيا الطبري‏.‏

المذهب الرابع‏:‏ التفصيل بين أن يحفظ الراوي اللفظ أم لا فإن حفظه لم يجز له أن يرويه بغيره لأن في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما لا يوجد في غيره وإن لم يحفظ اللفظ جاز له الرواية بالمعنى وبهذا جزم الماوردي والروياني‏.‏

المذهب الخامس‏:‏ التفصيل بين الأوامر والنواهي وبين الأخبار فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني قال الماوردي والروياني‏:‏ أما الأوامر والنواهي فيجوز روايتها بالمعنى كقوله‏:‏ «لا تبيعوا الذهب بالذهب» وروى أنه نهى بيع الذهب بالذهب وقوله صلى الله عليه وسلم اقتلوا الأسودين في الصلاة وروى أنه أمر أمر بقتل الأسودين في الصلاة قال هذا جائز بلا خلاف لأن أفعل أمر ولا تفعل نهي فيتخير الراوي بينهما وإن كان اللفظ في المعنى محتملا لإطلاق في إغلاق وجب نقله بلفظه ولا يعبر عنه بغيره‏.‏

المذهب السادس‏:‏ التفصيل بين المحكم وغيره فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني كالمجمل والمشترك والمجاز الذي لم يشتهر‏.‏

المذهب السابع‏:‏ أن يكون المعنى مودعا في جملة لا يفهمه العامي إلا بأداء تلك الجملة فلا يجوز روايته إلا بأداء تلك الجملة بلفظها كذا قال أبو بكر الصيرفي‏.‏

المذهب الثامن‏:‏ التفصيل بين أن يورده على قصد الاحتجاج والفتيا أو يورده لقصد الرواية فيجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني فهذه ثمانية مذاهب ويتخرج من الشروط التي اشترطها أهل مذاهب غير هذه المذاهب‏.‏

الحال الثالث‏:‏ أن يحذف الراوي بعض لفظ الخبر فينبغي أن ينظر فإن كان المحذوف متعلقا بالمحذوف منه تعلقا لفظيا أو معنويا لم يجز بالاتفاق حكاه الصفي الهندي وابن الأنباري فالتعلق اللفظي كالتقييد بالاستثناء والشرط والغاية والصفة والتعلق المعنوي كالخاص بالنسبة إلى العام والمقيد بالنسبة إلى المطلق والمبين بالنسبة إلى المجمل والناسخ بالنسبة إلى المنسوخ ويشكل على هذا المحكي من الاتفاق ما نقله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع والقاضي في التقريب من الجواز مطلقا سواء تعلق بعضه ببعض أم لا وفي هذا ضعف فإن ترك الراوي لما هو متعلق بما رواه لا سيما ما كان متعلقا به تعلقا لفظيا خيانة في الرواية وإن لم يكن كذلك فاختلفوا على أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ إن كان قد نقل ذلك هو أو غيره مرة بتمامه جاز أن ينقل البعض وإن لم ينقل ذلك لا هو ولا غيره لم يجز كذا قال القاضي في التقريب والشيخ الشيرازي في اللمع‏.‏

ثانيها‏:‏ أنه يجوز إذا لم يتطرق إلى الراوي التهمة ذكره الغزالي‏.‏

وثالثها‏:‏ أن الخبر إذا كان لا يعلم إلا من طريق الراوي وتعلق به حكم شرعي لم يجز له أن يقتصر على بعضه دون بعض وإن لم يتعلق به حكم فإن كان الراوي فقيها جاز له ذلك وإن كان غير فقيه لم يجز قاله ابن فورك وأبو الحسين بن القطان‏.‏

ورابعها‏:‏ إن كان الخبر مشهورا بتمامه جاز الاقتصار من الراوي على البعض وإلا فلا قاله بعض شراح اللمع لأبي إسحاق‏.‏

وخامسها‏:‏ المنع مطلقا‏.‏

وسادسها‏:‏ التفصيل بين أن يكون المحذوف حكما متميزا عما قبله والسامع فقيه عالم بوجه التميز فيجوز الحذف وإلا لم يجز قال إلكيا الطبري وهذا التفصيل هو المختار قال الماوردي والروياني‏:‏ لا يجوز إلا بشرط أن يكون الباقي مستقلا بمفهوم الحكم كقوله في ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته فيجوز للراوي أن يقتصر على رواية إحدى هاتين الجملتين وإن كان الباقي لا يفهم معناه فلا يجوز وإن كان مفهوما ولكن ذكر المتروك يوجب خلاف ظاهر الحكم المذكور كقوله صلى الله عليه وسلم في الأضحية لمن قال له ليس عندي إلا جذعة من المعز فقال‏:‏ «تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك» فلا يجوز الحذف لأنه لو اقتصر على قوله تجزئك لفهم من ذلك أنها تجزئ عن جميع الناس هذا حاصل ما قيل في هذه المسألة وأنت خبير بأن كثيرا من التابعين والمحدثين يقتصرون على رواية بعض الخبر عند الحاجة إلى رواية بعضه لا سيما في الأحاديث الطويلة كحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه من الأحاديث وهم قدوة لمن بعدهم في الرواية لكن بشرط أن لا يستلزم ذلك الاقتصاد على البضع مفسدة‏.‏

الحال الرابع‏:‏ أن يزيد الراوي في روايته للخبر على ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان ما زاده يتضمن بيان سبب الحديث أو تفسير معناه فلا بأس بذلك لكن بشرط أن يبين ما زاده حتى يفهم السامع أنه من كلام الراوي قال المارودي والروياني يجوز من الصحابي زيادة بيان السبب لكونه مشاهدا للحال ولا يجوز من التابعي وأما تفسير المعنى فيجوز منهما ولا وجه للاقتصار على الصحابي والتابعي في تفسير معنى الحديث فذلك جائز لكل من يعرف معناه معرفة صحيحة على مقتضى اللغة العربية بشرط الفصل بين الخبر المروي وبين التفسير الواقع منه بما يفهمه السامع‏.‏

الحال الخامس‏:‏ إذا كان الخبر محتملا لمعنيين متنافيين فاقتصر الراوي على تفسيره بأحدهما فإن كان المقتصر على أحد المعنيين هو الصحابي كان تفسيره كالبيان لما هو المراد وإن كان المقتصر غير صحابي ولم يقع الإجماع على أن المعنى الذي اقتصر عليه هو المراد فلا يصار إلى تفسيره بل يكون لهذا اللفظ المحتمل للمعنيين المتنافيين حكم هو المراد المشترك أو المجمل فيتوقف العمل به على ورود دليل يدل على أن المراد أحدهما بعينه والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بما يحتمل المعنيين المتنافيين لقصد التشريع ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية بحيث لا يفهم الراوي لذلك عنه من الصحابة ما أراده بذلك اللفظ بل لابد من بيانه بما يتضح به المعنى المراد فقد كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم إذا أشكل عليهم شيء من أقواله أو أفعاله فكيف لا يسألونه عن مثل هذا وقد نقل القاضي أبو بكر والجويني عن الشافعي أن الصحابي إذا ذكر خبرا أو أوله وذكر المراد منه فذلك مقبول قال ابن القشيري إنما أراد والله أعلم إذا أول الصحابي أو خصص من غير ذكر دليل وإلا فالتأويل المعتضد بالدليل مقبول من كل إنسان لأنه اتباع للدليل لا اتباع لذلك التأويل‏.‏

الحال السادس‏:‏ أن يكون الخبر ظاهرا في شيء فيحمله الراوي من الصحابة على غير ظاهره إما بصرف اللفظ عن حقيقته أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب أو عن التحريم إلى الكراهة ولم يأت بما يفيد صرفه عن الظاهر فذهب الجمهور من أهل الأصول إلى أنه يعمل بالظاهر ولا يصار إلى خلافه لمجرد قول الصحابي أو فعله وهذا هو الحق لأنا متعبدون بروايته لا برأيه كما تقدم وذهب أكثر الحنفية إلى أنه يعمل بما حمله عليه الصحابي لأنه أخبر بمراد النبي صلى الله عليه وسلم ويجاب عن هذا بأنه قد يحمله على ذلك على خلاف ظاهره اجتهادا منه والحجة إنما هي روايته لا في رأيه وقد يحمله وهما منه وقال بعض المالكية إن كان ذلك مما لا يمكن أن يدرى إلا بشواهد الأحوال والقرائن يمكن أن يكون بضرب من الاجتهاد كان الرجوع إلى الظاهر متعينا لاحتمال أن لا يكون اجتهاده مطابقا لما في نفس الأمر فلا يترك الظاهر بالمحتمل ويجاب عنه بأن ذلك الحمل على خلاف الظاهر فيما ليس من مسارح الاجتهاد قد يكون وهما فلا يجوز اتباعه على الغلط بخلاف العمل بما يقتضيه الظاهر فإنه عمل بما يقتضيه كلام الشارع فكان العمل عليه أرجح وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري إن علم أنه لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك التأويل وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضا فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك‏.‏

فصل في ألفاظ الرواية

اعلم أن الصحابة إذا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخبرني أو حدثني فذلك لا يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان مرويا بهذه الألفاظ كشافهني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رأيته يفعل كذا فهو حجة بلا خلاف وأما إذا جاء الصحابي بلفظ يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو أمر بكذا أو نهى عن كذا أو قضى بكذا فذهب الجمهور إلى أن ذلك حجة سواء كان الراوي من صغار الصحابة أو من كبارهم لأن الظاهر أنه روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى تقدير أن ثم واسطة فمراسيل الصحابة مقبولة عند الجمهور وهو الحق‏.‏

وخالف في ذلك داود الظاهري فقال أنه لا يحتج به حتى ينقل لفظ الرسول ولا حجة لهذا فإن الصحابي عدل عارف بلسان العرب وقد أنكر هذه الرواية عن دود بعض أصحابه فإن قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا بصيغة المبني للمفعول فذهب الجمهور إلى أنه حجة لأن الظاهر أن الآمر والناهي هو صاحب الشريعة وقال أبو بكر الصيرفي والإسماعيلي والجويني والكرخي وكثير من المالكية أنه لا يكون حجة لأنه يحتمل أن يكون الآمر أو الناهي بعض الخلفاء والأمراء ويجاب عنه بأن هذا الاحتمال بعيد لا يندفع به الظهور‏.‏

وحكى ابن السمعاني قولا ثالثا وهو الوقف ولا وجه له لأن رجحان ما ذهب إليه الجمهور وظهور وجه يدفع الوقف إذ لا يكون إلا مع تعادل الأدلة من كل وجه وعدم وجدان مرجح لأحدهما وحكى ابن الأثير في جامع الأصول قولا رابعا وهو التفصيل بين أن يكون قائل ذلك هو أبو بكر الصديق فيكون ما رواه بهذه الصفة حجة لأنه لم يتأمر عليه أحد وبين أن يكون القائل غيره فلا يكون حجة ولا وجه لهذا التفصيل لما عرفناه من ضعف احتمال كون الآمر والناهي غير صاحب الشريعة‏.‏

وذكر ابن دقيق العيد في شرح الإلمام قولا خامسا وهو الفرق بين كون قائله من أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وعلماء الصحابة كابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس فيكون حجة وبين كون قائله من غيرهم فلا يكون حجة ولا وجه لهذا أيضا تقدم وأيضا فإن الصحابي إنما يورد ذلك مورد الاحتجاج والتبليغ للشريعة التي يثبت بها التكليف لجميع الأمة ويبعد كل البعد أن يأتي بمثل هذه العبارة ويريد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا حجة في قول غيره ولا فرق بين أن يأتي الصحابي بهذه العبارة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعد موته فإن لها حكم الرفع وبها تقوم الحجة ومثل هذا إذا قال من السنة كذا فإنه لا يحمل إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال الجمهور وحكى ابن فورك عن الشافعي أنه قال في قوله القديم أنه يحمل على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظاهر وإن جاز خلافه وقال في الجديد يجوز أن يقال ذلك على معنى سنة البلد وسنة الأئمة ويجاب عنه بأن هذا احتمال بعيد والمقام مقام تبليغ للشريعة إلى الأمة ليعملوا بها فكيف يرتكب مثل ذلك من هو من خير القرون‏؟‏

قال الكرخي والرازي والصيرفي أنه ليس بحجة لأن المتلقي من القياس قد يقال إنه سنة لاستناده إلى الشرع وحكى هذا الجويني عن المحققين ويجاب عنه بأن إطلاق السنة على ما هو مأخوذ من القياس مخالف لاصطلاح أهل الشرع فلا يحمل عليه ونقل ابن الصلاح والنووي عن أبي بكر الإسماعيلي الوقف ولا وجه له وأما التابعي إذا قال من السنة كذا فله حكم مراسيل التابعين هذا أرجح ما يقال فيه واحتمال كونه مذاهب الصحابة وما كان عليه العمل في عصرهم خلاف الظاهر فإن إطلاق ذلك في مقام الاحتجاج وتبليغه إلى الناس يدل على أنه أراد سنة صاحب الشريعة قال ابن عبد البر إذا أطلق الصحابي السنة فالمراد به سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك إذا أطلقه غيره ما لم تضف إلى صاحبها كقولهم‏:‏ «سنة العمرين» ونحو ذلك فإن قال الصحابي كنا نفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو كانوا يفعلون كذا فأطلق الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي أن الأكثرين على أنه حجة ووجه أنه نقل لفعل جماعتهم مع تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولابد أن يعتبر في هذا أن يكون مثل ذلك مما لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم فتكون الحجة في التقرير وأما كونه في حكم نقل الإجماع فلا فقد يضاف فعل البعض إلى الكل‏.‏

وحكى القرطبي في قول الصحابي كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال فقال قبله أبو الفرج من أصحابنا ورده أكثر أصحابنا وهو الأظهر من مذهبهم قال القاضي أبو محمد والوجه التفصيل بين أن يكون شرعا مستقلا كقول أبي سعيد كنا نخرج صدقة عيد الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من شعير الحديث فمثل هذا يستحيل خفاؤه عليه صلى الله عليه وسلم فإن كان يمكن خفاؤه فلا يقبل كقول رافع بن خديج كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى روى لنا بعض عمومتي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ورجح هذا التفصيل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وقيل أن ذكره الصحابي في معرض الحجة حمل على الرفع وإلا فلا وأما لو قال الصحابي كانوا يفعلون أو كنا نفعل ولا يقول على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلا تقوم بمثل هذه الحجة لأنه ليس بمسند إلى تقرير النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو حكاية للإجماع‏.‏

وأما ألفاظ الرواية من غير الصحابي فلها مراتب بعضها أقوى من بعض‏:‏

المرتبة الأولى‏:‏ أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ وهذه المرتبة هي الغاية في التحمل لأنها طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي كان يحدث أصحابه وهم يسمعون وهي أبعد من الخطأ والسهو وقال أبو حنيفة أن قراءة التلميذ على الشيخ أقوى من قراءة الشيخ على التلميذ لأنه إذا قرأ التلميذ على الشيخ كانت المحافظة من الطرفين وإذا قرأ الشيخ كانت المحافظة منه وحده وهذا ممنوع فالمحافظة في الطريقين كائنة من الجهتين قال الماوردي والروياني ويصح تحمل التلميذ عن الشيخ سواء كانت القراءة عن قصد أو اتفاقا أو مذاكرة ويجوز أن يكون الشيخ أعمى على ما حفظه ويجوز أن يكون أصم ويجوز أن يكون التلميذ أعمى ولا يجوز أن يكون أصم وكما تجوز الرواية من حفظ الشيخ يجوز أن تكون من كتابه إذا كان واثقا به ذاكرا لوقت سماعه له وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا تجوز الرواية من الكتاب ولا وجه لذلك فإن يستلزم بطلان فائدة الكتاب ولا يبعد أن تكون الرواية من الكتاب الصحيح المسموع أثبت من الرواية من الحفظ لأن الحفظ مظنة السهو والنسيان والاشتباه وللتلميذ في هذه المرتبة التي هي أقوى المراتب أن يقول حدثني وأخبرني وأسمعني وحدثنا وأخبرنا وأسمعنا إذا كان الشيخ قاصدا لإسماعه وحده أو مع جماعة فإن لم يقصد ذلك فيقول سمعته يحدث‏.‏

المرتبة الثانية‏:‏ أن يقرأ التلميذ والشيخ يسمع وأكثر المحدثين يسمون هذا عرضا وذلك لأن التلميذ بقراءته على الشيخ كأنه يعرض عليه ما يقرؤه ولا خلاف أن هذه طريقة صحيحة ورواية معمول بها ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد بخلافه قال الجويني وشرط صحة هذه الطريقة أن يكون الشيخ عالما بما يقرؤه التلميذ عليه ولو فرض منه تصحيف أو تحريف لرده عليه وإلا لم تصح الرواية عنه قال وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتا وأجراسا ولا يأمن تدليسا وإلباسا وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه‏؟‏ قال أبو نصر القشيري وهذا الذي ذكره الإمام لم أره في كلام القاضي فإن صرح بأن الصبي المميز يصح منه التحمل وإن لم يعرف معناه وتصح رواية الحديث عمن لم يعلم معناه وهذا فيما أظن إجماع من أئمة الحديث وكيف لا وفي الحديث‏:‏ «رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» ولو شرطنا علم الراوي بمعنى الحديث لشرطنا معرفة جميع وجوهه ويسند بذلك الحديث قال وقد صرح الإمام بجواز الإجازة والتعويل عليها وقد يكون المجيز غير محيط بجملة ما في الكتاب المجاز وقد وافق الجويني على ذلك الشرط الذي ذكره إلكيا الطبري والمازري ويقول التلميذ في هذه الطريقة قرأت على فلان أو أخبرني أو حدثني قراءة عليه وأما إطلاق أخبرني أو حدثني بدون تقييده بقوله قراءة عليه فمنع من ذلك جماعة منهم ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل والنسائي لأن ظاهر ذلك يقتضي أن الشيخ هو الذي قرأ بنفسه وقال الزهري ومالك وسفيان الثوري وابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان والبخاري أنه يجوز لأن القراءة على الشيخ كالقراءة منه ونقله الصيرفي والماوردي والروياني عن الشافعي وروي عن الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح أنه يجوز في هذه الطريقة أن يقول أخبرنا ولا يجوز أن يقول حدثنا قال الربيع قال الشافعي إذا قرأت على العالم فقل أخبرنا وإذا قرأ عليك فقل حدثنا قال ابن دقيق العيد وهو باصطلاح المحدثين في الآخر والاحتجاج له ليس بأمر لغوي وإنما هو اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين قال ابن فورك بين حدثني وأخبرني فرق لأن أخبرني يجوز أن يكون بالكتابة إليه وحدثني لا يحتمل إلا السماع‏.‏

المرتبة الثالثة‏:‏ الكتابة المقترنة بالإجازة نحو أن يكتب الشيخ إلى التلميذ سمعت من فلان كذا وقد أجزت لك أن ترويه عني وكان خط الشيخ معروفا فإن تجردت الكتابة عن الإجازة فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين حتى قال ابن السمعاني أنها أقوى من مجرد الإجازة وقال إلكيا الطبري إنها بمنزلة السماع قال لأن الكتابة أحد اللسانين وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ بالكتابة إلى الغائبين كما يبلغ قبل الخطاب للحاضرين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب إلى عماله تارة ويرسل أخرى قال البيهقي في المدخل الآثار في هذا كثير من التابعين فمن بعدهم وفيها دلالة على أن جميع ذلك واسع عندهم وكتب النبي صلى الله عليه وسلم شاهدة لقوله قال إلا أن ما سمعه من الشيخ فوعاه وقرأ عليه به أولى بالقبول مما كتب به إليه لما يخاف على الكتاب من التغيير وكيفية الرواية أن يقول كتب إلي أو أخبرني كتابة فإن كان قد ذكر الأخبار في كتابه فلا بأس بقوله أخبرنا وجوز الرازي أن يقول التلميذ أخبرني مجردا عن قوله كتابة قال ابن دقيق العيد‏:‏ وأما تقييده بقوله كتابة فينبغي أن يكون هذا أدبا لأن القول إذا كان مطابقا جاز إطلاقه ولكن العمل مستمر على ذلك عند الأكثرين وجوز الليث بن سعد إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالكتابة قال القاضي عياض إن الذي عليه الجمهور من أرباب النقل وغيرهم جواز الرواية لأحاديث الكتابة ووجوب العمل بها وأنها داخلة في المسند وذلك بعد ثبوت صحتها عند المكتوب إليه ووثوقه بأنها عن كاتبها ومنع قوم من الرواية بها منهم المازري والروياني وممن نقل إنكار قبولها الحافظ الدارقطني والآمدي‏.‏

المرتبة الرابعة‏:‏ المناولة وهو أن يناول الشيخ تلميذه صحيفة وهي على وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن تقترن بالإجازة وذلك بأن يدفع أصله أو فرعا مقابلا عليه ويقول هذا سماعي فاروه عني أو يأتي التلميذ إلى الشيخ بجزء فيه سماعه فيعرضه على الشيخ ثم يعيده إليه ويقول هو من مروياتي فاروه عني قال القاضي عياض في الإلماع أنها تجوز الرواية بهذه الطريقة بالإجماع قال المازري لا شك في وجوب العمل بذلك ولا معنى للخلاف في ذلك قال الصيرفي ولا نقول حدثنا ولا أخبرنا في كل حديث وروي عن أحمد وإسحاق ومالك أن هذه المناولة المقترنة بالإجازة كالسماع وحكاه الخطيب عن ابن خزيمة‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن لا تقترن بالإجازة بل يناوله الكتاب ويقتصر على قوله هذا سماعي من فلان ولا يقول أروه عني فقال ابن الصلاح والنووي لا تجوز الرواية بها على الصحيح عند الأصوليين والفقهاء وحكى الخطيب عن قوم أنهم جوزوا الرواية بها وبه قال ابن الصباغ والرازي قال البخاري واحتج بعض أهل الحجاز للمناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث كتب لأمير السرية كتابا وقال لا تقرأه حتى تبلغ كذا وكذا فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأشار البيهقي إلى أنه لا حجة في ذلك قال العبدري لا معنى لإفراد المناولة حتى يقول أجزت لك أن تروي عني وحينئذ فهو قسم من أقسام الإجازة‏.‏

المرتبة الخامسة‏:‏ الإجازة وهو أن يقول أجزت لك أن تروي عني هذا الحديث بعينه أو هذا الكتاب أو هذه الكتب فذهب الجمهور إلى جواز الرواية بها ومنع من ذلك جماعة قال شعبة لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة وقال أبو زرعة الرازي لو صحت الإجازة لذهب العلم ومن المانعين إبراهيم الحربي وأبو الشيخ الأصفهاني والقاضي حسين والماوردي والروياني من الشافعية وأبو طاهر الدباس من الحنفية وقال من قال لغيره أجزت لك أن تروي عني فكأنه قال أجزت لك أن تكذب علي ويجاب عمن قال هؤلاء المانعون بأن الإجازة لا تستلزم بطلان الرحلة وأيضا المراد من الرحلة تحصيل طريق الرواية وقد حصلت بالإجازة ولا تستلزم ذهاب العلم غاية ما في الباب من روى بالإجازة ترك ما هو أقوى منها من طرق الرواية وهي طريقة السماع والكل طرق للرواية والعلم محفوظ غير ذاهب بترك ما هو الأقوى وأما قول الدباس إن الإجازة بمنزلة قول الشيخ لتلميذه أجزت لك أن تكذب علي فهذا خلف من القول وباطل من الكلام فإن المراد من تحصيل طريق الرواية هو حصول الثقة بالخبر وهي هنا حاصلة وإذا تحقق سماع الشيخ وتحقق أذنه للتلميذ بالرواية فقد حصل المطلوب من الإسناد ولا فرق بين الطريق المقتضية للرواية تفصيلا في اتصاف كل واحدة منها بأنها طريق وإن كان بعضها أقوى من بعض وإذا عرفت هذا علمت أنه لا وجه لما قاله ابن حزم في كتاب الأحكام أنه بدعة غير جائزة واختلفوا هل يجوز للتلميذ أن يقول في الإجازة حدثني أو أخبرني أو حدثنا أو أخبرنا من غير تقييد بكون ذلك إجازة فمنهم من أجازه ومنهم من منعه إلا بالقيد المذكور وهو أن يقول حدثني إجازة أو أخبرني إجازة‏.‏

قال ابن دقيق العيد وأجود العبارات في الإجازة أن يقول أجاز لنا وقيل يجوز أن يقول أنبأني بالاتفاق‏.‏

وهذه الطريقة على أنواع‏:‏

النوع الأول‏:‏ أن يجيز في معين لمعين نحو أن يقول أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي فجوز هذا الجمهور ومنعه جماعة منهم الجويني‏.‏

النوع الثالث‏:‏ أن يجيز غير معين بغير معين نحو أن يقول أجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي جميع مروياتي وقد جوز هذا جماعة منهم الخطيب وأبو الخطيب وأبو الطيب الطبري ومنعه آخرون وهذا فيما إذا كان المجاز له أهلا للرواية وأما إذا لم يكن أهلا لها كالصبي فجوز ذلك قوم ومنعه آخرون واحتج الخطيب للجواز بأن الإجازة إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه والإباحة تصح للمكلف وغيره ولابد من تقييد قول من قال بالجواز بأن لا يروي من ليس بمتأهل للرواية إلا بعد أن يصير متأهلا لها‏.‏

فصل الصحيح من الحديث

الصحيح من الحديث هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط من غير شذوذ ولا علة قادحة فما لم يكن متصلا ليس بصحيح ولا تقوم به الحجة ومن ذلك المرسل وهو أن يترك التابعي الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا اصطلاح جمهور أهل الحديث‏.‏

وأما جمهور أهل الأصول فقالوا المرسل قول من لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان من التابعين أو من تابعي التابعين أو ممن بعدهم وإطلاق المرسل على هذا وإن كان اصطلاحا ولا مشاحة فيه لكن محل الخلاف هو المرسل باصطلاح أهل الحديث فذهب الجمهور إلى ضعفه وعدم قيام الحجة به لاحتمال أن يكون التابعي سمعه من بعض التابعين فلم يتعين أن الواسطة صحابي لا غير حتى يقال قد تقرر أن الصحابة عدول فلا يضر حذف الصحابي وأيضا يحتمل أنه سمعه من مدع يدعي أن له صحبة ولم تصح صحبته‏.‏

وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وجمهور المعتزلة واختاره الآمدي إلى قبوله وقيام الحجة به حتى قال بعض القائلين بقبول المرسل أنه أقوى من المسند لثقة التابعي بصحته ولهذا أرسله وهذا غلو خارج عن الإنصاف والحق عدم القبول لما ذكرت من الاحتمال‏.‏

قال الآمدي وفصل عيسى بن أبان فقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين دون من عداهم ولعله يستدل على هذا بحديث‏:‏ «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب» وقيد هذا من قال به بأن يكون الراوي من أئمة النقل واختاره ابن الحاجب فإنه قال فإن كان من أئمة النقل قبل وإلا فلا‏.‏

قال ابن عبد البر لا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير محترز يرسل عن غير الثقات قال وهذا الاسم واقع بالإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أن يقول عبيد الله بن عدي بن الخيار أو أبو أمامة بن سهل بن حنيف أو عبد الله بن عامر بن ربيعة ومن كان مثلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك من دون هؤلاء كسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد ومن كان مثلهم وكذلك علقمة ومسروق بن الأجدع والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير ومن كان مثلهم الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة ومجالستهم ونحوه مرسل من دونهم كحديث الزهري وقتادة وأبي حازم ويحيى بن سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمى مرسلا كمرسل كبار التابعين وقال آخرون حديث هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يسمى منقطعا لأنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر روايتهم عن التابعين انتهى وفي هذا التمثيل نظر فأبو أمامة بن سهل بن حنيف وعبد الله بن عامر معدودان في الصحابة وأيضا قوله في آخر كلامه أن الزهري ومن ذكر معه لم يلقوا إلا الواحد والاثنين من الصحابة غير صحيح فقد لقي الزهري أحد عشر رجلا من الصحابة‏.‏

قال ابن عبد البر أيضا وأصل مذهب مالك وجماعة من أصحابه أن مرسل الثقة يجب به الحجة ويلزم به العمل كما يجب بالمسند سواء طائفة من أصحابنا مراسيل الثقات مقبولة بطريق أولى واعتلوا بأن من أسند لك فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك ومن أرسل من الأئمة حديثا مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك بصحته قال والمشهور أنهما سواء في الحجة لأن السلف فعلوا الأمرين قال وممن ذهب إليه أبو الفرج عمر بن محمد المالكي وأبو بكر الأبهر وهو قول أبي جعفر الطبري‏.‏

وزعم الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل ولم يأت عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين انتهى ويجاب عن قوله من أرسل من علمه ودينه وثقته فقد قطع لك بصحته أن الثقة قد يظن من ليس بثقة ثقة عملا بالظاهر ويعلم غيره من حاله ما يقدح فيه والجرح مقدم على التعديل‏.‏

ويجاب عن قول الطبري إنه لم ينكره أحد إلى رأس المائتين بما رواه مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن عباس أنه لم يقبل مرسل بعض التابعين مع كون ذلك التابعي ثقة محتجا به في الصحيحين وبما نقله مسلم أيضا عن ابن سيرين أنه قال كانوا لا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قيل سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ عنهم وإلى أهل البدع فلا يؤخذ عنهم‏.‏

ونقل الحافظ أبو عبد الله الحاكم أن المرسل ليس بحجة عن إمام التابعين سعيد بن المسيب وعن مالك بن أنس وجماعة من أهل الحديث ونقله غيره عن الزهري والأوزاعي وصح ذلك عن عبد الله بن المبارك وغيره قال الخطيب لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بتدليس هو رواية الراوي عمن لم يعاصره أو لم يلقه كرواية سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومحمد بن المنكدر والحسن البصري وقتادة وغيرهم من التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قيل هو مقبول إذا كان المرسل ثقة عدلا وهو قول مالك وأهل المدينة وأبي حنيفة وأهل العراق وغيرهم‏.‏

وقال الشافعي لا يجب العمل وعليه أكثر الأئمة واختلف مسقطو العمل بالمرسل في قبول رواية الصحابة خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه منه كقول أنس بن مالك ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ‏:‏ «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة» الحديث فقال بعض من لا يقبل مراسيل الصحابة لا نشك في عدالتهم ولكنه قد يروي الراوي عن تابعي أو عن أعرابي لا نعرف صحبته ولو قال لا أروي لكم إلا من سماعي أو من صحابي لوجب علينا قبول مرسله وقال آخرون مراسيل الصحابة كلهم مقبولة لكون جميعهم عدولا وأن الظاهر فيما أرسلوه أنهم سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما رووه عن التابعين فقد بينوه وهو أيضا قليل نادر لا اعتبار به قال وهذا هو الأشبه بالصواب ثم رجح عدم قبول مراسيل غير الصحابة فقال والذي نختاره سقوط فرض الله بالمرسل بجهالة راويه ولا يجوز قبول الخبر إلا عمن عرفت عدالته ولو قال المرسل حدثني العدل الثقة عندي بكذا لم يقبل حتى يذكر اسمه‏.‏

مسألة‏:‏ ولا تقوم الحجة بالحديث المنقطع

وهو الذي سقط من رواته واحد ممن دون الصحابة ولا بالمعضل وهو الذي سقط من رواته اثنان ولا بما سقط من رواته أكثر من اثنين لجواز أن يكون الساقط أو الساقطان أو الساقطون أو بعضهم غير ثقات ولا عبرة بكون الراوي لما هذا حال ثقة متثبتا لأنه قد يخفي عليه من حال من يظنه ثقة ما هو جرح فيه ولا تقوم الحجة أيضا بحديث يقول فيه بعض رجال إسناده عن رجل أو عن شيخ أو عن ثقة أو نحو ذلك لما ذكرنا من العلة وهذا مما لا ينبغي أن يخالف فيه أحد من أهل الحديث ولا اعتبار بخلاف غيرهم لأن من لم يكن من أهل الفن لا يعرف ما يجب اعتباره‏.‏

فصل في العدالة

وإذ قد تقرر لك أن العدالة شرط فلابد من معرفة الطريقة التي تثبت بها وأقوى الطرق المفيدة لثبوتها الاختبار في الأحوال بطول الصحابة والمعاصرة والمعاملة فإذا لم يعثر عليه فعل كبيره ولا على ما يقتضي التهاون بالدين والتساهل في الرواية فهو ثقة وإلا فلا ثم التزكية وهي إما أن تكون بخبر عدلين مع ذكر السبب ولا خلاف أن ذلك تعديل أو بدون ذكره والجمهور على قبوله ويكفي أن يقول هو عدل‏.‏

قال القرطبي لابد أن يقول هذا عدل رضى ولا يكفي الاقتصار على أحدهما ولا وجه لهذا بل الاقتصار على أحدهما أو على ما يفيد مفاد أحدهما يكفي عند من يقبل الإجمال وأما التعديل من واحد فقط فقيل لا يقبل من غير فرق بين الرواية والشهادة وحكاه القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء قال ابن الأنباري وهو قياس مذهب مالك وقيل يقبل‏.‏

قال القاضي والذي يوجبه القياس وجوب قبول كل عدل مرضي ذكرا أو أنثى حرا أو عبدا شاهدا أو مخبرا وقيل يشترط في الشهادة اثنان ويكفي في الرواية واحد كما يكفي في الأصل لأن الفرع لا يزيد على الأصل وهو قول الأكثرين كما حكاه الآمدي والصفي الهندي قال ابن الصلاح وهو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره لأن العدد لا يشترط في قبول الخبر فلا يشترط في جرح رواته ولا في تعديلهم بخلاف الشهادة وأطلق في المحصول قبول تزكية المرأة‏.‏

وحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء أنه لا يقبل النساء في التعديل لا في الشهادة ولا في الرواية ثم اختار قبول قومه لها فيهما كما يقبل روايتها وشهادتها انتهى ولابد من تقييد هذا بكونها ممن تجوز لها مصاحبته والاطلاع على أحواله أو يكون الذي وقعت تزيكة المرأة له مثلها ويدل على هذا سؤاله صلى الله عليه وسلم للجارية في قصة الإفك عن حال أم المؤمنين عائشة‏.‏

وقد تكون التزكية بأن يحكم حاكم بشاهدته كذا قال الجويني والقاضي أبو بكر وغيرهما قال القاضي وهو أقوى من تزكيته باللفظ وحكى الصفي الهندي الاتفاق على هذا قال لأنه لا يحكم بشهادته إلا وهو عدل عنده وقيده الآمدي بما إذا لم يكن الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب قال ابن دقيق العيد وهذا إذا منعنا حكم الحاكم بعلمه أما إذا أجزناه فعلمه بالشهادة ظاهرا يقوم معه احتمال أنه حكم بعلمه باطنا‏.‏

ومن طرق التزكية الاستفاضة فيمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة فإن ذلك يكفي قال ابن الصلاح وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي وعليه الاعتماد في أصول الفقه وممن ذكره من المحدثين الخطيب ومثله بنحو مالك وشعبة والسفيانين وأحمد وابن معين وابن المديني وغيرهم قال القاضي أبو بكر الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية متى لم يكونا مشهورين بالعدالة وكأن أمرهما متشكلا ملتبسا وصرح بأن الاستفاضة أقوى من تقوية الواحد والاثنين قال ابن عبد البر كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره على العدالة حتى يتبين جرحه لقوله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتبعه على ذلك جماعة من المغاربة وهذا الحديث رواه العقيلي في ضعفائه من جهة ابن رفاعة السلامي عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري وقال لا يعرف إلا به وهو مرسل أو معضل ضعيف وإبراهيم قال فيه القطان لا نعرفه ألبتة في شيء من العلم غير هذا وقال الخلال في كتاب العلل‏:‏ سئل أحمد عن هذا الحديث فقيل له‏:‏ ترى أنه موضوع‏؟‏ فقال‏:‏ لا هو صحيح قال ابن الصلاح وفيما قاله اتساع غير مرضي‏.‏

ومن طرق التزكية العمل بخبر الراوي حكاه أبو الطيب الطبري عن الشافعية ونقل فيه الآمدي الاتفاق واعترض عليه بأنه قد حكى الخلاف فيه القاضي والغزالي في المنخول وقال الجويني فيه أقوال‏:‏ أحدها أنه تعديل له والثاني أن ليس بتعديل والثالث قال وهو الصحيح أنه إن أمكن أنه عمل بدليل آخر ووافق عليه الخبر الذي رواه فعمله ليس بتعديل وإن كان العمل بذلك الخبر من غير أن يمكن تجويز أنه عمل بدليل آخر فهو تعديل واختار هذا القاضي في التقريب قال وفرق بين قولنا عمل بالخبر وبين قولنا بموجب الخبر فإن الأول يقتضي أنه مستنده والثاني لا يقتضي ذلك لجواز أن يعمل به لدليل آخر وقال الغزالي إن أمكن حمله على الاحتياط فليس بتعديل وإلا فهو تعديل وكذا قال إلكيا الطبري ويشترط في هذه الطريقة أن لا يوجد ما يقوي ذلك الخبر فإن وجد ما يقويه من عموم أو قياس وعلمنا أن العمل بخبره لم يكن لا لاعتضاده بذلك فليس بتعديل‏.‏

ومن طريقة التزكية أن يروي عنه من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل كيحيى بن سعيد القطان وشعبة ومالك فإن ذلك تعديل كما اختاره الجويني وابن القشيري والغزالي والآمدي والصفي الهندي وغيرهم قال الماوردي هو قول الحذاق ولابد في هذه الطريقة من أن يظهر أن الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل ظهورا بينا إما بتصريحه بذلك أو بتتبع عادته بحيث لا تختلف في بعض الأحوال فإن لم يظهر ذلك ظهورا بينا فليس بتعديل فإن كثيرا من الحفاظ يروون أحاديث الضعفاء للاعتبار ولبيان حالها ومن هذه الطريقة قولهم رجاله رجال الصحيح وقولهم روى عنه البخاري ومسلم أو أحدهما‏.‏

فرع ‏[‏في تعديل المبهم‏]‏

اختلف أهل العلم في تعديل المبهم كقولهم‏:‏ «حدثني الثقة أو حدثني العدل» فذهب جماعة إلى عدم قبوله ومنهم أبو بكر القفال الشاشي والخطيب البغدادي والصيرفي والقاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والماوردي والروياني وقال أبو حنيفة يقبل والأول أرجح لأنه وإن كان عدلا عنده فربما لو سماه كان مجروحا عند غيره قال الخطيب لو صرح بأن جميع شيوخه ثقات ثم روى عمن لم يسمه لم نعمل بروايته لجواز أن نعرفه إذا ذكره بخلاف العدالة قال نعم لو قال العالم كل ما أروي عنه وأسميه فهو عدل رضى مقبول الحديث كان هذا القول تعديلا لكل من روى عنه وسماه كما سبق انتهى‏.‏

ومن هذا قول الشافعي في مواضع كثيرة حدثني الثقة وكذا كان يقول مالك وهذا إذا لم يعرف من لم يسمه أما إذا عرف بقرينة حال أو مقال كان كالتصريح باسمه فينظر فيه قال أبو حاتم إذا قال الشافعي أخبرني الثقة عن ابن أبي ذئب فهو ابن أبي فديك وإذا قال أخبرني الثقة عن الليث بن سعد فهو يحيى بن حسان وإذا قال أخبرني الثقة عن الوليد بن كثير فهو عمرو بن أبي سلمة وإذا قال أخبرني الثقة عن ابن جريح فهو مسلم بن خالد الزنجي وإذا قال أخبرني الثقة عن صالح مولى التوأمة فهو إبراهيم بن أبي يحيى‏.‏

فرع آخر هل يقبل الجرح والتعديل من دون ذكر السبب أم لا‏؟‏

فذهب جماعة إلى أنه لابد من ذكر السبب فيهما وذهب آخرون إلى أنه لا يجب ذكر السبب فيهما إذا كان بصيرا بالجرح والتعديل واختار هذا القاضي أبو بكر وذهب جماعة إلى أنه يقبل التعديل من غير ذكر السبب بخلاف الجرح فإنه يحصل بأمر واحد وأيضا سبب الجرح مختلف فيه بخلاف سبب التعديل أو إلى هذا ذهب الشافعي‏.‏

قال القرطبي وهو الأكثر من قول مالك قال الخطيب وذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده كالبخاري ومسلم وذهب جماعة إلى أنه يقبل الجرح من غير ذلك السبب ولا يقبل التعديل إلا بذكر السبب قالوا لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الظاهر والحق أنه لابد من ذكر السبب في الجرح والتعديل لأن الجارح والمعدل قد يظنان ما ليس بجارح جارحا وقد يظنان ما لا يستقل بإثبات العدالة تعديلا ولاسيما مع اختلاف المذاهب في الأصول والفروع فقد يكون ما أبهمه الجارح من الجرح هو مجرد كونه على غير مذهبه وعلى خلاف ما يعتقده وإن كان حقا وقد يكون ما أبهمه من التعديل هو مجرد كونه على مذهبه وعلى ما يعتقده وإن كان في الواقع مخالفا للحق كما وقع ذلك كثيرا وعندي أن الجرح المعمول به هو أن يصفه بضعف الحفظ أو بالتساهل في الرواية أو بالإقدام على ما يدل على تساهله بالدين والتعديل المعمول به هو أن يصفه بالتحري في الرواية والحفظ لما يرويه وعدم الإقدام على ما يدل على تساهله بالدين فاشدد على هذا يديك تنتفع به عند اضطراب أمواج الخلاف فإن قلت إذا ورد الجرح المطلق كقول الجارح ليس بثقة أو ليس بشيء أو هو ضعيف فهل يجوز العمل بالمروي مع هذا أم لا‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏ يجب حينئذ التوقف حتى يبحث المطلع على ذلك على حقيقة الحال في مطولات المصنفات في هذا الشأن كتهذيب الكمال للمزي وفروعه وكذا تاريخ الإسلام وتاريخ النبلاء والميزان للذهبي‏.‏

فرع ثالث في تعارض الجرح والتعديل وعدم إمكان الجمع بينهما

وفيه أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أن الجرح مقدم على التعديل وإن كان المعدلون أكثر من الجارحين وبه قال الجمهور كما نقله عنهم الخطيب والباجي ونقل القاضي فيه الإجماع قال الرازي والآمدي وابن الصلاح إنه الصحيح لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل قال ابن دقيق العيد وهذا إنما يصح على قول من قال أن الجرح لا يقبل إلا مفسرا وقد استثنى أصحاب الشافعي من هذا ما إذا جرحه بمعصية وشهد الآخر أن قد تاب منها فإنه يقدم في هذه الصورة التعديل لأن معه زيادة علم‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنه يقدم التعديل على الجرح لأن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحا والمعدل إذا كان عدلا لا يعدل إلا بعد تحصيل الموجب لقبوله جرحا حكى هذا الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ولابد من تقييد هذا القول بالجرح المجمل إذ لو كان الجرح مفسرا لم يتم ما علل به أن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحا إلخ‏.‏

القول الثالث‏:‏ أنه يقدم الأكثر من الجارحين والمعدلين قال في المحصول وعدد المعدل إذا زاد قيل أنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد‏.‏

القول الرابع‏:‏ أنهما يتعارضان فلا يقدم أحدهما على الآخر إلا بمرجح حكى هذا القول ابن الحاجب وقد جعل القاضي في التقريب محل الخلاف فيما إذا كان عدم المعدلين أكثر فإن استووا قدم الجرح بالإجماع وكذا قال الخطيب في الكفاية وأبو الحسين بن القطان وأبو الوليد الباجي وخالفهم أبو نصر القشيري فقال محل الخلاف فيما إذا استوى عدد المعدلين والجارحين قال فإن كثر عدد المعدلين وقل عدد الجارحين فقيل العدالة في هذه الصورة أولى انتهى والحق الحقيق بالقبول أن ذلك محل اجتهاد للمجتهد وقد قدمنا أن الراجح أنه لابد من التفسير في الجرح والتعديل فإذا فسر الجارح ما جرح به والمعدل ما عدل به لم يخف على المجتهد الراجح منهما من المرجوح وأما على القول بقبول الجرح والتعديل المجملين من عارف فالجرح مقدم على التعديل لأن الجارح لا يمكن أن يستند في جرحه إلى ظاهر الحال بخلاف المعدل فقد يستند إلى ظاهر الحال وأيضا حديث من تعارض فيه الجرح والتعديل المجملان قد دخله الاحتمال فلا يقبل‏.‏

فصل ‏[‏في عدالة الصحابة‏]‏

اعلم أن ما ذكرناه من وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي إنما هو في غير الصحابة فأما فيهم فلا لأن الأصل فيهم العدالة فتقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين قال القاضي هو قول السلف وجمهور الخلف وقال الجويني بالإجماع ووجه هذا القول ما ورد من العمومات المقتضية لتعديلهم كتابا وسنة كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏ أي عدولا وقوله‏:‏ ‏{‏لقد رضي الله عن المؤمنين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والسابقون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير القرون قرني» وقولهم في حقهم «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدكم ولا نصيفه» وهما في الصحيح وقوله‏:‏ «أصحابي كالنجوم» على مقال فيه معروف قال الجويني ولعل السبب في قبولهم من غير بحث عن أحوالهم أنهم نقلة الشريعة ولو ثبت التوقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول ولما استرسلت على سائر الأعصار قال إلكيا الطبري وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والمخطئ معذور بل مأجور وكما قال عمر بن عبد العزيز تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن حكمهم في العدالة حكم غيرهم فيبحث عنها قال أبو الحسين بن القطان فوحشي قتل حمزة وله صحبة والوليد شرب الخمر فمن ظهر عليه خلاف العدالة لم يقع عليه اسم الصحبة والوليد ليس بصحابي لأن الصحابة إنما هم الذين كانوا على الطريقة انتهى وهذا كلام ساقط جدا فوحشي قتل حمزة وهو كافر ثم أسلم وليس ذلك مما يقدح به فالإسلام يجب ما قبله بلا خلاف وأما صحابيا عن صحبته قال الرازي في المحصول وقد بالغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم على ما نقله الحافظ عنه في كتاب الفتيا ونحن نذكر ذلك مجملا ومفصلا أما مجملا فإنه روى من طعن بعضهم في بعض أخبارا كثيرة يأتي تفصيلها وقال رأينا بعض الصحابة يقدح في بعض وذلك يقتضي توجه القدح إما في القادح إن كان كاذبا وإما في المقدوح فيه إن كان القادح صادقا والجواب مجملا أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة وبراءتهم عن المطاعن وإذا كان كذلك وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع على الطعن فيهم إلى آخر كلامه‏.‏

القول الثالث‏:‏ أنهم كلهم عدول قبل الفتن لا بعدها فيجب البحث عنهم وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقا أي من الطرفين لأن الفاسق من الفريقين غير معين وبه قال عمرو بن عبيد من المعتزلة وهذا القول في غاية الضعف لاستلزامه إهدار غالب السنة فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها وفيه أيضا أن الباغي غير معين من الفريقين وهو معين بالدليل الصحيح وأيضا التمسك بما تمسكت به طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين‏.‏

القول الرابع‏:‏ أنهم كلهم عدول إلا من قاتل عليا وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة ويجاب عنه بأن تمسكهم بما تمسكوا به من الشبه يدل على أنهم لم يقدموا على ذلك جراءة على الله وتهاونا بدينه وجناب الصحبة أمر عظيم فمن انتهك أعراض بعضهم فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالما وقد كان في أهل الشام صحابة صالحون عرضت لهم شبه لولا عروضها لم يدخلوا في تلك الحروب ولا غمسوا فيها أيديهم وقد عدلوا تعديلا عاما بالكتاب والسنة فوجب علينا البقاء على والتأويل لما يقتضي خلافه‏.‏

القول الخامس‏:‏ أن من كان مشتهرا منهم بالصحبة والملازمة فهو عدل لا يبحث عن عدالته دون من قلت صحبته ولم يلازم وإن كانت له رواية كذا قال الماوردي وهو ضعيف لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم قليلا ثم انصرفوا كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن أبي العاص وأمثالهم قال المزي إنها لم توجد رواية عمن يلمز بالنفاق وقال ابن الأنباري وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن يثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك ولله الحمد فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثبت خلافه ولا التفات إلى ما ذكره أهل السير فإن لا يصح وما يصح فله تأويل صحيح انتهى وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة علمت أنه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمه كان ذلك حجة ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم‏.‏

فرع ‏[‏في تعريف الصحابي‏]‏

إذا عرفت أن الصحابة كلهم عدول فلابد من بيان من يستحق اسم الصحبة وقد اختلفوا في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ولو ساعة سواء روى عنه أم لا وقيل هو من طالت صحبته وروى عنه فلا يستحق اسم الصحبة إلا من يجمع بينهما وقيل هو من ثبت له أحدهما أما قول الصحبة أو الرواية والحق ما ذهب إليه الجمهور وإن كانت اللغة تقتضي أن الصاحب هو من كثرت ملازمته فقد ورد ما يدل على إثبات الفضيلة لمن لم يحصل له منه إلا مجرد اللقاء القليل والرؤية ولو مرة وقد ذكر بعض أهل العلم اشتراط الإقامة مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعدا أو الغزو معه روي ذلك عن سعيد بن المسيب وقيل ستة أشهر ولا وجه لهذين القولين لاستلزامهما خروج جماعة من الصحابة الذين رووا عنه ولم يبقوا الدية إلا دون ذلك وأيضا لا يدل عليهما دليل من لغة ولا شرع وحكى القاضي عياض عن الواقدي أنه يشترط أن يكون بالغا وهو ضعيف لاستلزامه لخروج كثير من الصحابة الذين أدركوا عصر النبوة ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغوا إلا بعد موته ولا تشترط الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم لأن من كان أعمى مثل ابن أم مكتوم قد وقع الاتفاق على أنه من الصحابة‏.‏

وقد ذكر الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من أهل الأصول أن الخلاف في مثل هذه المسألة لفظي ولا وجه لذلك فإن من قال بالعدالة على العموم ولا يطلب تعديل أحد منهم ومن اشترط في شروط الصحبة شرطا لا يطلب التعديل مع وجود ذلك الشرط ويطلبه مع عدمه فالخلاف معنوي لا لفظي‏.‏

فرع آخر ‏[‏في كيفية معرفة الصحابي‏]‏

ويعرف كون الصحابي صحابيا بالتواتر والاستفاضة وبكون من المهاجرين أو من الأنصار وبخبر صحابي آخر معلوم الصحبة واختلفوا هل يقبل قوله أنه صحابي أم لا فقال القاضي أبو بكر يقبل لأن وازع العدالة يمنعه من الكذب إذا لم يرو عن غيره ما يعارض قوله وبه قال ابن الصلاح والنووي وتوقف ابن القطان في قبول قوله بأنه صحابي وروي عنه ما يدل على الجزم بعدم القبول فقال ومن يدع الصحبة لا يقبل منه حتى نعلم صحبته وإذا علمناها فما رواه فهو على السماع حتى نعلم غيره انتهى واعلم أنه لابد من تقييد قول من قال بقبول خبره أنه صحابي بأن تقوم القرائن الدالة على صدق دعواه وإلا لزم قبول خبر كثير من الكذابين الذين ادعوا الصحبة‏.‏